الثلاثاء، 14 أغسطس 2012

 
خلطة حرية
 
اصبحت احفر الورق باظافرى حين اكتب
اصبحت عصبيا.. وحارقا..وجارحا
وصار سلوكى كسلوك ارنب برى
نسيت مهنة الدبلوماسية التى زاولتها عشرين عاما
نزعت قميصى المنشى .. وكلامى المنشى
وقررت ان اكون مباشرا..كطلقة مسدس
كذا ما كتبه نزار قبانى فى سيرته الذاتية بعنوان (خمسون عاما من الشعر فى ينايرعام 1990)
وفيها رؤية تستحق التأمل .. كنت قد قرأتها فى ذاك الوقت ,,ووجدتنى اعود اليها وانا ابحث فى مكتبتى الورقية عن شيئ مختلف عن هذا الطوفان المعلوماتى الذى يداهمنا طوال النهار والليل من الانترنت ..والذى فى كثير منه يمتلئ بالاكاذيب والشائعات ..عدت الى نزار باحثا عن فكرة الابداع الذى يبقى ولم أشأ ان اقرأ اشعاره التى لااحب بعضها واستمتع ببعضها الاخر .. شأن كل شيئ فى هذه الايام بعضه سيئ وبعضه الاخر جميل

&&&

فى عام 1940دخل نزار قبانى الى بحر الشعر.. لم يكن لديه فكرة عن فن الغوص وعن اخلاق البحر.. يقول:ظننت ان الماء لن يصل الى مافوق ركبتى.. واننى سوف العب بالرمل والموج والاصداف .. واخذ حمام شمس لبضع ساعات ثم اعود الى قواعدى ولكنى لم اعد الى البر ابدا
عندما دخلت إلى ورشة الشعر قبل خمسين عاما كانت المواد الاولية متوفرة بكثرة من حولي .. فراشي وأصباغ وطين وصلصال وخشب وقماش وجبس وأزاميل وقوالب وفن لطبخ السيراميك..

قلت لمعلمي في الورشة : ماذا أفعل؟ ومن أين أبدأ؟
قال:إبدأ من حيث تريد ..واستعمل أصابعك جيدا ولا تلتفت إلى يمينك .. أو إلى شمالك..
إياك أن تقترب من قوالب الاخرين فإنها سجن..
إصنع قوالبك بنفسك .. فالطين هنا .. والماء هنا .. والفرن هناك..
وإذا احترقت أصابعك أثناء العمل فضعها تحت حنفية الماء فليس لدينا في الورشة قطن وسبيرتو.
ثم ..لا تتكلم مع زملائك أثناء العمل لانني في ورشتي لااحب الثرثرة والكلام الفارغ
قلت : ولكنني يا سيد غشيم .. ولم اتجاوز السادسة عشرة .. ألا يمكنك أن تعطيني فكرة صغيرة عن طريقة الشغل؟
صرخ المعلم في :
يا ولد . ليس عندي روضة أطفال .. ولا بيبرونات .. ولاحليب .. ولاكاكاو .. إلبس (الأوفرول) الازرق فورا .. ودبر حالك..
ولبست (الاوفرول) الازرق وانخرطت في ورشة العمل
كانت كلمات معلمي تدق الاجراس في داخلي:
لا تلتفت يمينا.
لاتلتفت شمالا
لا تقترب من قوالب الاخرين
مر على هذا الكام خمسون عاما ولا تزال الاجراس تدق في أعماقي .. ولايزال (الاوفرول) الازرق ملتصقا بجسدي ليلا ونهارا أعمل به وأنام به وأستحم به.
ولازلت أطبق (الريجيم) الشعري الذي أوصاني به أستاذي بحذافيره ..
صحيح أن الريجيم كان قاسيا ولكنه ساعدني على الاحتفاظ بلياقتي الشعرية على مدى خمسين عاما..
كان من السهل على أن أجلس على موائد الاخرين وأكل بيتزا ومعكرونة .. وكنافة بالقشطة..
ولكنني لم أفعل وظلت لاءات معلمي تلاحقني وانا أجلس إلى طاولة الطعام وإلى طاولة الكتابة حتى اليوم..
لا تعذبوا انفسكم في تصنيفي
إنني شاعر خارج التصنيف .. وخارج الوصف والمواصفات
فلا انا تقليدي ولا انا حدثاوي ولا انا كلاسيكي ولا انا نيو-كلاسيكي ولا انا رومانسي ولا انا رمزي ولا انا ماضوي ولا انا مستقبلي ولا انا انطباعي او تكعيبي او سريالي..
إنني (خلطة) لا يستطيع اي مختبر ان يحللها
انني (خلطة حرية)
هذه هي الكلمة التي كنت ابحث عنها منذ خمسين عاما ووجدتها في هذه اللحظة فقط..
الحرية تحررني من كل الضغوط التي يمارسها التاريخ على اصابعي
تحررني من كل انظمة السير ومن كل اشارات المرور
الحرية تحميني من غباء الات التسجيل ومن السقوط بين اسنان الالات الناسخة
تحميني من ارتداء اللباس الموحد والقماش الموحد واللون الموحد فالقصيدة ليست مجندة ولا ممرضة ولا مضيفة طيران
الحرية تسمح لي بأن ألبس اللغة التي اشاء في الوقت الذي اشاء
انني هارب من نظام الاحكام العرفية في الشعر
كما انا هارب من قوانين الطوارئ ومن (لزوميات ما يلزم)
لا أسمح لأحد أن يتدخل بأشكالي
فلقد أكتب المعلقة الطويلة
ولقد اكتب (التلكس) الشعري القصير
ولقد اكتب قصيدة التفعيلة .. او القصيدة الدائرية او قصيدة النثر
ولقد اتزوج القافية ذات ليلة .. واطلقها في اليوم التالي
وقد اتصعلك كعروة بن الورد
وقد ارتدى السموكن كاللوردات الانجليز
وقد اخطب على طريقة قس بن ساعده
وقد اعزف الجاز واغني على طريقة البيتلز
ان حريتي تدفعني الى ارتكاب حماقات كثيرة
ولكنني لا اعتذر ..ولا اندم
فالشعر بدون حماقة هو موعظة في كنيسة
وبيان انتخابي لا يقرؤه احد




&&&
من اجمل القصائد التى اعجبتنى .. تلك التى يقول فيها:
وبعد ثلاثين عاما
طلبت اللجوء السياسي للحب
حين اكتشفت بأنى تعبت
وانى انهزمت
وان غرورى انكسر
حجزت مكانالحزنى بكل مطار
والغيت بعدقليل حجوز السفر
فلا قبلتنى بلاد الجفاف
ولاقبلتنى بلاد المطر
........
وبعدثلاثين عاما
رأيت بعينيك برهان ربى
وشاهدت نور اليقين
وشاهدت كل الصحابة والمرسلين
وشاهدت برقا
وشاهدت نارا
وشاهدت بالعين ..رائحة الياسمين
وشاهدت.. شاهدت
حتى نسيت الكلام..
...........
سماء من الكحل..تمحو سماء
نساء تكسرن فوق نساء
وانت ستبقين..بعد ثلاثين قرنا..
ستبقين بيت القصيد..
ومسك الختام

ليست هناك تعليقات: