الجمعة، 20 ديسمبر 2019

مأزق الصحافة القومية


إنفاذ الصحافة القومية من المأزق الذي تعيش فيه منذ سنوات عديدة يتلخص في خطة من ثلاثة كلمات : الدمج والتخصص والديجيتالميديا
فالدولة في رأيي لاتحتاج ل55 صحيقة ومجلة تصدرها 9 مؤسسات قومية .. إنها تحتاج لأقل من نصف هذا العدد
يكفيها المؤسسات الكبرى : الأهرام والأخبار ودار التحرير (الجمهورية ) والقومية للتوزيع  ووكالة انباء الشرق الاوسط ..  وتندمج بقية المؤسسات باصداراتها الرئيسية فقط للمؤسسات الثلاث الأولى.. بعد أن تأخذ كل مؤسسة تخصصا مختلفا .. مثلا : تتخصص الجمهورية في ان تكون صحيفة كل محافظات مصر ..الطبعتان الأولى والثانية منها للأقاليم والثالثة للقاهرة الكبرى .. والاهرام بتاريخها هي الجريدة السياسية الاولى والأخبار هي الصحيفة الشعبية .. وكل الإصدارات لها مواقع ألكترونية من خلال منصة ألكترونية لكل مؤسسة .. ومع هذه الافكار تقوم الهيئة الوطنية للصحافة بالدعوة لمشروع شعبي لدعم الصحف القومية على غرار ما فعلته الجارديان البريانية .. بالإضافة لأقناع الوزارات ومؤسسات الدولة بدعم الصحف القومية بتركيز إعلاناتها واشتراكاتها في هذه الصحف
وللحديث بقية بأذن الله

الأحد، 1 ديسمبر 2019

من الذاكرة الإلكترونية




أجد متعة في تصفح ذاكرتي الإلكتروني ..التي أحتفظ بها منذ سنوات تمتد إلى ماقبل عام ١٩٩٧بعد أن حدث تغيير كبير في حياتي المهنية .. أي عندما طرقت أبواب تكنولوجيا العلومات .. وقت أن كانت بالنسبة لجيلي من الصحفيين طلاسم لايفهمها غير المتخصصين من المهندسين والدارسين لتكنولوجيا المعلومات.
الذاكرة أحتفظ بها في أماكن عدة ابتداء من (جوجل درايف) ..ومرورا ب (اي كلاود) وحتى مساحة إلكترونية بحجم (وان تيرا بايت) ..وهي بشكل عام كبيرة تحتاج الي وقت طويل جدا لمراجعتها ولكني وأنا أفحصها اشعر في بعض محتوياتها كأني أقرأها لأول مرة
ياله من إعجاز بشري أن تجد عند أصابعك  وفي ثوان معدودة معلومات وفيديوهات وصور لأنشطتك علي مدارمايقرب من عشرين عاما .. هذا الكم الهائل كان قديما يحتاج لغرف عديدة ..لكني الآن أصل اليه عبر تليفوني المحمول زز او من خلال الكمبيوتر إذا أوصلته بجهاز صغير في حجم الموبايل هو ذاكرة إلكترونية حجمها (تيرا بايت ) .. يعني مليارات الصفحات
ذاكرتي التي ستعيش بعد أن أفارق الحياة .. ستكون العلم الذي ينتفع به عبر سنوات يحددها الله سبحانه وتعالي
والمدهش أن كثيرا من محتواها لايستطيع أن يصل اليه الكثيرون .. لأن زملاء لنا ألغوا المواقع التي كانت تحمل هذه المعلومات دون أن ينتبهوا للإحتفاظ بنسخة من المحتوي الذي أراه مهما ..ولهذا رأيت أن أعيد نشره للعامة ..ومن خلال مدونتي المفتوحة للجميع .. متمنيا لمن يقرأه كل الفائدة :

1- طوغان..عندما يمتزج الفن بالفكر والنضال




حوار: أيمن حماد - تصوير سعيد الشحات
الأربعاء 12 اكتوبر 2011 -- 1:05 ص
أكثر من ستين عاما قضاها في بلاط صاحبة الجلالة، حيث بدأ مشواره الصحفي العملي في العام 1948 رساما لفن الكاريكاتير، وإن كانت موهبته قد بدأت منذ سن مبكرة وهو في مدرسة ديروط الابتدائية ، فقد لفت نظر بعض المدرسين بهذه الموهبة في الرسم الكاريكاتيري، وبدأ ينشر أعماله في الصحف في الرابعة عشرة من عمره. إنه الفنان أحمد طوغان شيخ رسامي الكاريكاتير بمصر والوطن العربي الذي ولد عام 1926 وواكب التحولات التي مرت بها مصر والوطن العربي منذ ثورة 1952 وحتى الآن، كما أثرى طوغان المكتبة العربية بعديد من الكتب القيمة من أهمها:
 1.أيام المجد فى وهران ( 1954 ) أدب رحلات 2. قضايا الشعوب ( 1957 )
 3. أيام من العمر ( 1971 ) أدب رحلات 4. الريح الصفراء ( 1968 ) أدب رحلات
 5. كاريكاتير طوغان ( 1970 ) كاريكاتير اجتماعي 6. كاريكاتير طوغان ( 1996 ) كاريكاتير سياسي 7. حدث فى دولة ديموقراطيستان ( 1997 ) أدب ساخر 8. كاريكاتير طوغان ( 1998 ) كاريكاتير سياسي 9. يوميات رسام كاريكاتير ( 2000 ) كاريكاتير سياسي 10. مجموعة رسوم ( 2001 ) اتحاد الكتاب كاريكاتير سياسي. كما حصل على العديد من الأوسمه والجوائز أهمها: وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولي 1977 جائزة حقوق الإنسان 1989 جائزة مصطفى وعلى أمين الصحفية 1987 درع قوات المثني العراقية 1997 مهرجان الجونة الدولي  1999  المهرجان الدولي للكاريكاتير فى الإسماعيلية 2000 وغيرها من الأوسمة والجوائز.
 

التقيناه ليحدثنا عن هذا المشوار المفعم بالخبرة والتجربة الحية كأحد أبناء مؤسسة دار التحرير للطبع والنشر المؤسسين لجريدة الجمهورية جريدة الثورة التي صدرت عام 1953 ، وهو ذات العام الذي التحق فيه طوغان للعمل بها.



*حدثنا عن بدايتك العملية في بلاط صاحبة الجلالة؟
** بدأت مشواري الصحفي سنة 1948 ، حيث عملت قبل أن التحق بالجمهورية بمؤسسة روز اليوسف، ومجلة الاشتراكية، وصحف مصر الفتاة، والجمهور المصري، كما عملت بجريدة الأخبار التي صدرت سنة 1951 ، وكنت أرسم كاريكاتير الجريدة، ومكثت فيها سنة، إلى أن قامت ثورة 23 يوليو 1952 ، وعندما بدأ مشروع إصدار الجمهورية التحقت للعمل بها في 9 أكتوبر 1953 فبل صدور الجريدة بثلاثة أشهر تقريبا.



* وماذا عن هذه التجربة؟
** واكبت قصة نشأة الجمهورية، فقد كانت جريدة الثورة التي تعبر عنها، والثورة كانت تحارب الرجعية والتخلف، وسياستنا كانت جزءا من الأمة العربية ومشاكلها والتحولات التي تمر بها من حركات تحررية وعلاقات بإيران ونظام الشاه، وقد أصدرت كتابا في هذه الفترة اسمه "قضايا الشعوب"، وهو عبارة عن رسوم كاريكاتورية لي كانت تنشر بالصفحة الأولى بالجمهورية، وكانت محل اهتمام كبير، حتى أن الرئيس الراحل أنور السادات كتب مقدمته.



*حدثنا عن جريدة الجمهورية تحديدا في هذه الفترة؟
**الجمهورية حظيت بإقبال كبير من الناس بمختلف شرائحهم، وضمت طائفة من المحررين والكتاب والمفكرين مثل: د. طه حسين، والأديب الثوري عبد الرحمن الشرقاوي، د.لويس عوض، ود.يوسف إدريس، ود.محمد مندور وغيرهم كثيرون . وقد دخلت الجمهورية بمعركة الجزائر، حيث ذهبت للجزائر وعشت هناك مع المقاتلين، وعندما عدت كتبت في الجمهورية على مدى 20 صفحة عن التجربة الجزائرية وحركات المقاومة فيها، وكانت هذه أول مرة نتكلم عن الجزائر في الصحافة المصرية، والنضال ضد إسرائيل.



* تركت العمل بالجمهورية لقترة ثم عدت إليها مؤخرا، ما السبب؟
** الجمهورية مثل مصر، أحيانا هناك معوقات وخلافات في الرؤى، فتارة يتولى الأمر أناس جيدون، كما أن هناك آخرين ليسوا أسوياء، وقد تركت الجمهورية في عام 2001 ، أو بالتحديد رفت، ولما جاءت ثورة 25 يناير العظيمة عدت إليها مرة أخرى.
وأنا مصنف في القائمة الأولى من المعادين لإسرائيل، وقيدت ضمن المعادين للسامية. وقد نشرت الجمهورية خبر معاداة السامية بالصفحة الأولى، وأدركت وقتها أن الذي نشر الخبر ليس فاهما، كما أدركت بعدها أنني "لازم أمشي"، وقد بعثت الإدارة لي خطابا قالوا فيه : "عاوزين الشباب ياخد فرصته"، وتعللوا بكبر السن، وكان ذلك بمثابة رفت لي، إلى أن جاءت ثورة 25 يناير، بعدها طلبني رئيس التحرير الجديد، وقال لي: الناس في الميدان تنادي بإسقاط النظام، ونحن هنا نطالب بعودة طوغان.



* رسوماتك تحمل مداليل فكرية معينة..حدثنا عنها وهل سبب ذلك مشاكل لك؟
** دور الكاريكاتير الحقيقي ليس التسلية والضحك، ولكنه يحمل مضمونا فكريا عن قضايا مهمة تشغل الناس والرأي العام، وله هدف، والكاريكاتير مثل كل شيء أساسه الحرية والمصداقية، ومن الذكاء أن يتمكن الرسام من توصيل فكرته دون إثارة مشاكل، والكاريكاتير- كما أقول دائما- يرفع المعنويات ويقود الرأي العام، وهو يعتمد على الموهبة في المقام الأول وهذا يستلزم الاهتمام بالموهوب وتثقيفه.
وأضرب لك مثالا على ذلك: أيام الحرب العالمية الثانية سقطت أوروبا كلها في يد الألمان الذين احتلوا معظم البلدان الأوروبية في تلك الفترة، هولندا وبولندا والسويد والنرويج وفرنسا التي سقطت في ستة أيام، وأصبحت انجلترا تحارب بمفردها، أما أمريكا فكانت في الحياد، وأصبحت انجلترا مستهدفة للهجوم الكاسح وسقط الجيش الانجليزي كله في يد الألمان، فجمع القادة الانجليز والمسئولون في الدولة رسامي الكاريكاتير وقالوا لهم: عليكم دور كبير في رفع المعنويات، وأنتم السلاح الرئيسي في محاولة إنقاذ المعنويات، وقد لعب رسامو الكاريكاتير الانجليز دورا كبيرا في ذلك، فانتشرت الرسوم الكاريكاتورية على جميع الأرجاء، النواصي والشوارع، ونجحت هذه الرسوم بالفعل في رفع معنويات الانجليز.



* ألا تتفق معي أن الكاريكاتير من الممكن أن يؤخ لحياة الشعوب،
** تاريخنا موجود على المعابد، والمصريون القدماء كان لهم السبق ليس في الكاريكاتير فحسب، ولكن في كل شيء، وفي معبد "هابو" في الأقصر على سبيل المثال، هناك قرية للعمال، ويتضح من الرسوم التي على الجدران أن العمال بها يبدوا أنهم لم يكونوا على وفاق مع المهندس الذين يعملون معه، فنرى رسوما تحكي وتعبر عن سخرية من هذا المهندس، فنرى رسما يصور وجود القطط في السجن والحارس فأر، وطبعا لذلك دلالة كبيرة. والكاريكاتير يواكب الثورات في كل العصور، وعندما قامت ثور25 يناير كان الشباب يرسمون الكاريكاتير على الأرض، فهو فن موجود في المقدمة دائما.



* ما أبرز رسوماتك التي علقت – وما زالت- بذاكرتك؟
** هناك رسوم لى كان لها صدى كبير على الساحة، وأذكر أن السادات أثناء توليه مدير لدار الجمهورية قال لي: إن مجلس قيادة الثورة كله يتحدث عن رسوماتك. وقد كتبت عن مصدق رئيس وزراء إيران الذي وضع في السجن، فرسمت باب السجن عبارة عن الدولار والاسترليني، وكتبت تعليقا بعنوان: من الذي وضع مصدق في السجن، حيث كان أول من أمم البترول وقد تآمر عليه الغرب عليه ودبروا له مؤامرة ووضع بسببها داخل السجن.



* وهل تهتم بجانب معين في الكاريكاتير؟
** المسائل كلها مرتبطة ببعضها، السياسة والمجتمع والثقافة وغيرها، فعلى سبيل المثال عندما تم تصدير الغاز لإسرائيل في عهد مبارك، وتم إصدار حكم قضائي بعد وجوب ذلك رسمت كاريكاتير عن ذلك، كما رسمت كاريكاتيرا يحكي حديثا بين شخصين أحدهما وهو مندوب الحكومة يقول عن صفقة بيع شركات عمر أفندي نتيجة تدني السعر للمشتري الذي تردد في الشراء: "يعني لو هية كانت خسرانة كنا هانبيعهالك"، فهم يبيعون كل حاجة كسبانة. وللأسف وجدنا في العهد البائد الذي قامت الثورة ضده التعليم المتدني، فلا هناك مدرسة حقيقية ولا مدرسين، كما أن الصحة منهارة، والسرقة على أشدها، وهذا دليل على فقدان الانتماء لهذا الوطن والشعب المصري العظيم، وقد عبرت عن كل ذلك بالكاريكاتير.



* بمنْ تأثرت في فن الكاريكاتير؟
** تأثرت برسام الكاريكاتير الانجليزي ديفيد لو، وأول رسام تتبعته منذ بدايتي هو الفنان "رخا" وكنت في سن 11 سنة، فكنت أتابع رسوماته التي كان ينشرها في روز اليوسف وآخر ساعة.كان ذلك في الثلاثينيات والأربعينيات، وكان هناك رسامون أجانب مثل رفقي التركي وكان رئيس ديوان السلطان عبد الحميد، وهناك برني، لكن أعمالهم كانت في أغلبها "نكت"، أما الكاريكاتير الحقيقي الهادف فبدأ مع رخا.



*وهل للشكل في الكاريكاتير أهمية؟
**هذا ضروري جدا، وهو مهم في إيصال الفكرة والتعبير عن القضية التي يعبر عنها الفنان، فالمضمون والشكل يكمل بعضهما البعض



* وماذا عن مجلة الكاريكاتير؟
** أصدرت مجلة الكاريكاتير سنة 1990 وبعد سنة استقلت منها، وأخيرا انتخبت رئيسا لجمعية رسامي الكاريكاتير، وهي تضم شباب الرسامين وننظم بها دورات تدريبية لرعاية المواهب الجديدة، فنتابع أعمالهم ونوجههم.



* باعتبارك عاصرت ثورة 1952 ما الفرق بينها وثورة 25 يناير؟
** ثورة 52 قام بها مجموعة من الضباط الشباب، أما ثورة 25 يناير فقام بها الشعب المصري وهي ثورة حقيقية ولا يمكن أن تنتكس ومن يعتقد ذلك فهو يعيش في الأوهام.



* وهل هناك شبه بين المجلس العسكري الآن وضباط 52 ؟
**ثورة 52 –كما قلت- قام بها ضباط شباب، وعندما تسلموا المسئولية أثقلتهم، أما الآن فالجيش استجاب للجماهير، وهم على درجة عالية من النضج وغيروا الرئيس، فهنا شيء من الإحساس بالناس، وهم ليسوا ثوارا، بل حافظوا على الثورة استجابة لإرادة الشعب.



* حدثنا عن مؤلفاتك؟
** أصدرت 15 كتابا، أبرزها كتاب عن قضية الجزائر سنة 1954، وفيه تناولت واقع اللغة العربية هناك في هذه الفترة، والتعذيب هناك، وبيع البنات بالمزاد، وقتل المواطنين بالآلف، فقد قتل في ليلة واحدة 90 ألف مواطن على يد الاستعمار، وهو كتاب وثائقي، ونشرت فيه وثائق عن بعض الفرنسسن الذين تحدثوا عن الحياة غير الآمية في الجزائر. وهناك كتاب آخر عن دور الكاريكاتير في قضية فلسطين جمعت فيه 300 رسم كاريكاتيري تؤرخ للقضية الفلسطينية.



* ما رأيك في السادات؟
** السادات هو أحد العبقريات التي حكمت مصر، والدليل على ذلك معركة العبور، من حيث اختيار ساعة العبور، وتحطيم خط بارليف، فكل ذلك تم في سرية تامة دون خروج سر، رغم أن عدد الجيش كان مليون جندي، والسادات هو الذي خصص متر الأرض في عهده بمدينة 6 أكتوبر بـ 14 جنيها، ولم يكن في عهده رجال أعمال منتفعون كالآن. إن كل إصلاح فب البلد المبادرة فيه كانت من السادات.



* وعبد الناصر؟
** هو قائد الثورة، إلا أنه مختلف عن السادات. السادات كان أفضل إنسانيا، وقد عانى ما عاناه الشعب المصري، وله الفضل في استعادة سيناء، ورغم أن عبد الناصر قائد الثورة غلا أنه في عهده حدثت نكسة 67 وكادت مصر تحتل بأجمعها، ومرجع ذلك إلى الشللية والمصالح الخاصة والنهب، فخسرنا ثلث الأرض، و67 كانت هزيمة منكرة والكلاب كانت تأكل الضباط والعساكر في الصحراء.



* وحسني مبارك؟
** انهارت مصر في عهده وتراجعت مكانتها، وحاول أن يلغي النظام الجمهوري ويحولها إلى ملكية، وكان يعمل لصالح إسرائيل.

مممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممم




 2- ناجى قمحة: خمسون عاماً من العطاء.. في بلاط صاحبة الجلالة
حوار: عزه قاعود
السبت 19 مارس 2011 -- 5:13 م
خمسون عاماً هي زمن رحلة عطائه لدار التحرير.. لم يكف يوماً فيها عن العمل.. لم يشك.. لم يتململ.. ظل مديرا لتحرير الجمهورية اليومي لأكثر من 25 عاماً لم يظلم فيها احداً.. ولم يقصر في أداء واجبه يوماً.. دخل دار التحرير في عام 1961 بقسم التصحيح وتدرج سريعاً بفضل كفاءته والتزامه حتي وصل مديراً لتحريرها.. "ناجي قمحة" من مواليد مدينة بنها التي لم تحظ بتواجده فيها طويلاً فقد تنقل بين عدة محافظات مختلفة يجمعهم النيل الذي شكل وجدانه ليصبح أديباً وشاعراً وكاتباً وصحفياً متميزاً.
عهود رئاسيه مختلفة وقيادات صحفية متغايرة كلها عاشها "ناجي قمحة" تجاوب مع بعضها واصطدم مع البعض الآخر ولكنه في النهاية ظل كما هو بمبادئه واخلاقياته.
شهادات واعترافات وذكريات يرويها "ناجي قمحة" لذاكرة دار التحرير.


قبل ان تحدثنا عن النشأة.. إذا قلت: ناجي قمحة لو لم أكن صحفياً لوددت أن أكون.....؟
لوددت ان أكون بحاراً.. ربما يعود ذلك لشعوري بالعزلة والوحدة. واعترف انني لم اكن اتخيل انني سأكون صحفياً.. ربما تخيلت ان أكون كاتباً وليس صحفياً.
وعن نشأته قال:
تعود أصولي إلي مدينة بنها التي ولدت بها لكني تركتها بعد فترة قصيرة جداً لتكون نشأتي الحقيقية علي  ضفاف النيل بالجيزة.
والنيل الذي اذكره هذا لا يمثل مجرد مكان.. وعندما اقول علي ضفاف النيل فأنا لا اصف سكني.. لكني اصف ارتباطاً داخلياً نشأ بيني وبين هذا النيل الملهم.. ليدعم داخلي رومانسيتي التي نشأت بداخلي لا ادري كيف أو متي.
ولم يكن نيل الجيزة وحده منفرداً بإلهامي.. فنيل المنصورة أيضاً كان هاماً في حياتي.. ففي هذه المدينة الجميلة استشعرت جمالها وجمال النيل بها فأثرا في نفسي بشكل كبير.
وفي حديثنا عن جمال الطبيعة الذي تأثرت به كثيراً أذكر ايضاً تلك الفترة التي قضيتها في مدينة القناطر الخيرية في الخمسينيات حينما كانت مليئة باللون الأخضر الذي يجبر النفس علي الإبداع.
لقد كان لعمل والدي في مجلس المدينة الفضل في هذا التجوال بين العديد من المدن الجميلة التي تأثرت بوجودي بها.. ورغم اختلاف طبيعة كل مدينة من هذه المدن سواء بنها – المنصورة – المحلة -  بني سويف -  القناطر. وقد كان لهذه النشأة دورها في تنمية الخيال لدي والذي أصبح يشكل وجداني فبدأت اقرأ خاصة وأنا في بنها من خلال مكتبة المدرسة.. حتي انني كنت اقرأ اشعار "طاغور" ذلك الشاعر الهندي الذي كان يكتب في الحب دائماً.. كنت ايضاً اميل إلي قراءة القصص مما جعلني متميزاً في كتابة الموضوعات التعبيرية واجادتها.
* وهنا اتذكر موقف عندما كنت في المرحلة الإعدادية طلب مدرس اللغة العربية من الفصل كله ان يختار كل طالب موضوع يكتب فيه.. وما كان مني إلا ان كتبت خطاباً في الحب.. لم يكن موجهاً لشخص بعينه ولكنه كان نابعاً من قراءاتي وخيالي الذي شكله النيل والخضرة والطبيعة.
واذكر ايضاً ان هذا الخطاب لم يكن به سوي غلطة أو غلطتين نحويتين رغم انه كان مكونا من 6 صفحات وهذا يدل علي عشقي للغة العربية وتقديسي لها وتمكني منها بفضل قراءاتي الكثيرة فقد كنت اعشق القراءة.. احب ان اقرأ أي شيء حتي انني عندما كنت اشتري سندوتشات "الكبدة" اقرأ الأوراق الملفوفة بها قبل حتي ان آكل.. فأنا بالفعل لا استطيع مقاومة القراءة. فدائماً لدي الرغبة في القراءة.. قراءة أي نوع والتضحية بأي شيء في مقابل هذه الرغبة.
* واذكر هنا ان "خالي" كان لديه صندوق كبير كانوا في الزمن الماضي يضعون فيه الأشياء الثمينة والمقتنيات الخاصة بهم وكان صندوق "خالي" هذا يمتلئ بالكتب المتنوعة. فكنت اذهب إليه وانتهز فرصة ذهابه للصلاة فافتح الصندوق وأخذ ديوانا لـ "عزيز أباظة" لأقرأه فقد كنت أميل دوماً للكتابات الرومانسية والخيالية التي تتضمن الحب والغرام.
* اذكر ايضاً أحد المواقف وانا في مرحلة المدرسة.. كان المدرس قد طلب موضوعاً في التعبير عن العدوان الثلاثي وكتبت الموضوع بالفعل وضمنته جملة "نحن نرد الصاع صاعين" وكنت اقصد العدوان بالطبع. واعجب المدرس جداً بالموضوع وطلب مني قراءته في الفصل ولكن خجلي جعلني اتلجلج فيه فظهر عدم تمكني منه. فظن زملائي انني لست بكاتبه فقالوا للمدرس "ده ولا يعرف حاجه طيب اسأله يعني ايه الصاع صاعين".
- هنا اود ان اشير إلي دور هذا الرجل فلولا تقديره لكان الأمر مختلفا فإذا استجاب لهؤلاء الزملاء لسبب لي احباطاً ولكنه قدر خجلي وساهم في تنمية مهاراتي وقدراتي الإبداعية. فاللأسف كم من مواهب لم يحسن إليها ولا يتعامل معها المجتمع بشكل لائق وتتعرض لمواقف مذلة ومهينة فتكون وبالاً علي المجتمع.
وللأسف ما يحدث اليوم هو تحقير الأخلاق والموهبة فاليوم نحن نقول للص الذي يركب السيارة الهامر "يا باشا" ويجد الترحيب الكامل من المجتمع الذي يعلم حقيقته "كـ لص" بعكس فترة الأربعينيات والخمسينيات حينما كان يقال علي شخص "الواد ده حرامي" كان المجتمع كله من حوله ينبذه تماماً.
* ولا شك ان الصحافة بها كل ذلك فهي "تشكيله" لإنها انعكاس للمجتمع تتطور بتطوره وتنهار بانهياره.

وما هي علاقة الصحافة بالمجتمع؟
علاقة وثيقة جداً تصل لدرجة انه إذا كانت هناك جريدة جيدة فإنها قد تكون ارهاصة للتغيير. . فالصحافة قبل الثورة كانت "الأهرام - الأخبار - المنشورات الصغيرة التي يصنعها الإشتراكيون "صحافة تحت الأرض" ثم قامت الثورة واصبح صانعو صحافة "تحت الأرض" مثل السادات والسعدني هم صانعو صحافة بعد الثورة وعندما تولي السادات مجلس إدارة "الجمهورية" احضر كل من عملوا بهذه المنشورات ممن هم ضد النظام والملكية ليعملوا معه بجريدة الجمهورية.

اذاً توجد علاقة بين الصحفي والمجتمع؟!
بالطبع.. فأنا انظر إلي الصحفي دوماً علي انه "كشكول" به مميزات وعيوب المجتمع.. لذا دائماً نجد ان الصحفي الجيد هو الذي تربي في مجتمع لديه اخلاقيات .. فالموهبة غالباً تظهر من خلال مجتمع محترم والعكس صحيح  فالصحفي الذي لا يمتلك اخلاقيات لابد من التأكد من ان البيئة التي نشأ فيها وخلقت فيها موهبته هي التي صنعته بهذا الشكل.

ماذا عن المرحلة الجامعية؟
لقد نجحت في الثانوية العامة بمجموع 62.5% اهلنتي لدخول كلية الآداب وكانت وقتها من كليات القمة وكنت قد عزمت علي دخول قسم الصحافة. ولكن كان في هذه الأيام تقليد للكلية ان يجتمع كل الطلاب الجدد في مدرج "78" ويلتقي بهم العميد وكان وقتها الدكتور "عز الدين فريد" الذي تحدث عن شروط القبول بقسم الصحافة وهي اجادة اللغتين الإنجليزية والفرنسية بالإضافة إلي الجرأة وهي المعني الأكثر احتراماً لإنه قال وقتها "مطلوب يكون ميتكسفش ومدردح يعني قليل الأدب". فكرت قليلاً فوجدت اني احب الفرنسية ولكني لا اجيدها بالشكل المطلوب.. كما انني خجول جداً ولم يكن امامي سوي ان اخرج من هذا المدرج لأتجه إلي قسم اللغة العربية الذي ادركت انه الأنسب لي لأسباب كثيرة منها اجادتي وحبي للغة العربية وايضاً لظروف سفري يومياً من القاهرة إلي بنها فالسفر يلتهم كثيراً من الوقت وكان قسم الصحافة يتطلب التدريب في جريدة أو إنشاء جريدة أهلية وكان ذلك غير متاح لي.

هل سعدت بهذا الاختيار؟
سعدت به جداً وكان أجمل شيء أشعر به عندما كنت أحضر محاضرة لـ "طه حسين" وكانت يوم الأربعاء.. كنت أشعر أن الله أعطاني نعمة ومجداً في تاريخي لأكون في يوم من الأيام تلميذاً لـ "طه حسين".
كنت أيضا أحضر لشوقي ضيف ـ شكري عياد ـ يوسف خليف الذي كان صاحب فضل كبير علي شخصي ومازلت حتي اليوم أتذكر هذا الموقف معه حينما كان عندي امتحان تفسير شفوي وخرجت من بنها وركبت القطار في السادسة صباحاً ووصلت الكلية لأنتظر دوري وجاء دوري الساعة 11 مساء وكان الإمتحان في بحث عن البلاغة في سورة الكهف .. وقتها وجهت لي ثلاثة أسئلة لم أجب عن واحد منها وكان من الطبيعي أن يحدث ذلك فقد سهرت اليوم السابق للإمتحان حتي أذاكر ثم عشت رحلة القطار في الصباح الباكر وبالتالي كنت مجهداً جداً ورغم ذلك لم أسلم بالأمر فانتظرت حتي خرج الدكتور وشرحت له ظروفي فقال لي "لا.. لا" قلت له "أنا بس طالب إعادة الإمتحان" فقال: "لا.. لا" ولكن فوجئت بعدها بأني نجحت. طبعا كنت أشعر أن حضوري المحاضرات يوميا كان شفيعاً لي وهذا يرجع لطبيعتي كإنسان ملتزم. ولكن موقف المساندة هذا قوي لديّ جانب الخير لأني إذا كنت فشلت لكان ذلك دافعاً لكرهي للجامعة ولكان الإحباط قد منعني من المواصلة. وأتصور أن بعض الكارهين للمجتمع قد تعرضوا إلي مواقف احباط دفعتهم إلي هذه الكراهية.

حدثتنا عن القراءة في المدرسة.. فماذا عن القراءة في الجامعة؟
كنت أتردد علي دار الكتب وأقرأ فيها.. فكنت أنتهي من محاضرات بالكلية في الساعة 1.30 ظهراً فأهرول إلي "العتبة" أشتري سندوتشات فول أو طعمية لأتناول الغداء وأكون أول من يدخل الدار التي تفتح أبوابها في الرابعة عصراً حتي أتمكن من قراءة أكبر قدر ممكن حتي الثامنة مساء للحاق بقطار الثامنة والنصف لأعود إلي بنها.

ألم تكن تضجر بمشقة هذا السفر؟
لا.. لأن السفر نفسه كان يحمل معه ثروات في المشاهدة ويعوض لديّ الشعور بالوحدة.. فصحيح انني لم أكن مندمجاً مع أحد ولكن مشاهداتي الكثيرة جعلتني متعايشاً تماماً مع كل هذه النوعيات من البشر.

ماذا تمثل لك "السينما"؟
لقد كانت "السينما" من روافد الثقافة بالنسبة لي خاصة إذا كانت الأفلام المعروضة قصصاً عالمية سواء عربية أو أجنبية.
وقد كنت حريصاً علي الذهاب إليها لمشاهدة العروض المختلفة ففي أيام الجامعة كان لديّ "كارنيه" القطار درجة ثانية بـ 2.50 جنيه في السنة ولكن أثناء الدراسة لم يكن لديّ الوقت للذهاب إليها أما في الإجازة فقد كنت أركب القطار إلي القاهرة واحضر حفلة صباحية ثم أذهب إلي بنها أتناول الغداء وأعود للسينما مرة ثانية.
ومن المفارقات أن تكون السينما التي أذهب إليها أمام جريدة الجمهورية التي كان مبناها الرئيسي في شارع زكريا أحمد والسينما كانت في شارع عماد الدين الذي توجد به سينمات الدرجة الثانية واتذكر وقتها انها كانت أمام سينما لوكس أو كليبر أو سان جيمس حتي انني كنت شبه مقيم في عماد الدين في الإجازة.. فالأفلام ليست متعة لحظية فقط بل انها قصص مجسده تعوض الإندماج في الحياة.

هل كان لديك روافد ثقافية أخري غير القراءة والسينما؟
كان "البرنامج الثاني" رافداً هاماً جداً  فكان كل يوم ثلاثاء يأتي بعرض لمسرحية لمدة 3 أو 4 ساعات مترجمة عن الإنجليزية وكنت وقتها لا أجيدها وهذا عيب خطير فلابد أن يجيد الصحفي لغة أجنبية. كنت أدخل غرفتي استمع للمسرحية ولا أخرج منها إلا بعد انتهائها تماماً.
وهنا اؤكد أن الصوت مع التفكير في الأحداث يعمل علي تثبيت المادة. فكنت في أحيان كثيرة وأنا جالس اتذكر أصواتاً أو جملاً تقال وكان هذا قوياً مثل القراءة كما كان يساعدني في الكتابة حيث كنت استعير جملاً تأتي بذاكرتي. لذا أحب قراءة القرآن جداً.. فهو مليء بالجمل والبلاغيات الجميلة.. لذا كنت أحياناً وأنا أكتب استخدم جملاً أو تعبيرات من القرآن دون أن أشعر.

هل كنت تقرأ قصصا ودواوين شعر فقط.. أم كنت تقرأ صحفا أيضا؟
أثناء الجامعة كنت اقرأ الصحف التي يأتي بها والدي فقط وكان وقتها يشتري جريدة الأهرام وكنت أحرص دوما علي قراءة حلقات "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ والتي كانت تنشر بها ولم أترك منها حلقة واحدة ولكن الرئيس عبد الناصر اعترض عليها وطلب ايقافها من "هيكل" الذي كان رئيس التحرير وقتها.

متي عينت في الجمهورية وكيف؟
 تخرجت في سنة 1961 وتم تعييني في الجمهورية بفضل علاقة قرابة بيني وبين أحمد نوار الذي كان سكرتير تحرير وقتها ولكنى أخفيت ذلك.
كنت في هذا الوقت أبحث عن فرصة عمل وكانت الجمهورية قد انضمت إليها جريدة الشعب وبالتالي كانت هناك فرصة لوجود وظائف وكانت الفرصة الوحيدة للدخول هي قسم التصحيح ورحبت به لتوافقه مع ظروفي وامكاناتي.. فأنا خريج لغة عربية وخجول ولكنه لم يتوافق معي كإنسان من بيئة معاصرة وعقلية متفتحة حيث كان الموجودون في القسم من الأزهريين. وكانت النظرة إليهم انهم "فقهاء" ونحن كخريجي أداب ينظرون إلينا علي اننا متفرنجين.
ولعلكم تذكرون "طه حسين" عندما كان في الأزهر وذهب إلي الآداب فاعتبروه "خارجاً" وطردوه. وانتقل هذا الشعور معي فلم أكن سعيد بهذا القسم في البداية خصوصاً ان من حولي لم يكن كلهم معهم شهادات عليا وكان رئيس القسم وقتها الشيخ البشلاوي.
وتأكدت لي في هذه المرحلة نظرتي إلي الإنسان حيث لكل  إنسان جانبان.. جانب خير وجانب شر وكانت مهمتي وقتها أن أخاطب الجانب الخير بأن ابدي لهم هذا الجانب حتي اكسبهم واشعرهم بالاطمئنان وبأني محل ثقتهم واؤكد لهم قدرتي علي العطاء.أما الشر فلابد من ان يكبته الإنسان بفضل إرادته وينمي نزعته إلي التسامح حتي إذا كان في منافسة ما.
فقد اعتدت أن السباق أو التنافس إذا أدي إلي أذي أحد فلابد من التوقف عنه علي الفور حتي إذا كان علي حساب النفس أو الطموح. ولعل هذه النظرة تفسر كيف أعمل بالصحافة "50" عاما ولا أصل إلي منصب "رئيس تحرير".
فالسباق دائماً له ضحايا وأنا لم يكن لديّ أي استعداد لإن يكون لي ضحايا.
وعندما توليت منصب مدير تحرير لم أكن قد سعيت إليه مطلقاً حتي من كان سبباً فيه فحينما وجدت أنه يريد استغلال ذلك واجهته بشكل عنيد جداً لشعوري بأنه لم يتفضل عليّ بشيء وليس ذلك إنكاراً للجميل ولكن لأني كنت استحق ذلك بالفعل وكان هذا هو التطور الطبيعي حيث جاء هذا المنصب بعد 19 عاما من العمل الصحفي والإنجازات المستمرة. لذا لم يكن ذلك معجزة.

وفي عودة إلي الحديث عن بداياتي في الجمهورية: فقد تم تعييني في قسم التصحيح دون فترة تدريب ولكني مررت باختبار نجحت فيه وكان راتبي وقتها "12" جنيهاً شهرياً اتقاضاها "11.20" جنيه. بعد فترة اصبح وجودي في قسم التصحيح يمثل تحدياً. فأنا ابن الطبقة المتوسطة التي تضم عائلته الكثير من الأسماء اللامعة مثل" أحمد قمحة"  الذي يوجد شارعان باسمه في القاهرة والإسكندرية، "حسين يسري قمحة " الذي كان مدير أمن اسكندرية. واسماء كثيرة أخري كنت أفخر بهم بداخلي ولكني لم اذكر أياً منهم علناً يوماً من الأيام. وكانت المرة الوحيدة التي عرف فيها الناس شيئاً عن عائلتي كان بسبب ما نشر في نعي والدي عندما توفي من سنوات قليلة.
لذا كنت أشعر أن الفارق بيني وبين زملائي في قسم التصحيح هو فارق كبير وكان من الممكن أن ينعكس عليّ بالتكبر عليهم وكان ذلك سيكون كارثة لأنهم سينفرون مني. ولكن وقتها تعاملت معهم وكأني ابن من ابنائهم.
كان عمري وقتها "21" عاما وكانوا هم يزيدون علي "50" عاما. فتعاملت معهم كأنني مازلت طالباً اتعلم منهم. كنا وقتها في الدور الثاني في غرفة ملحقة بجريدة الجازيت. وقد وجدت منهم كل التشجيع بعد أن وجدوا انني غير مثير للمشاكل وانني اتعلم في صمت دون تفاخر. وظهر هنا الخجل والإنطواء فلم أكن اشارك إلا نادراً ولكني استمع واتلقي واتعلم في صمت. استمر ذلك طوال ستة أشهر وضع فيها أساس البناء لحياتي الصحفية التالية.

هل أضاف لك العمل بقسم التصحيح؟
المصحح يمر عليه الجرنال بأكمله.. لذا كنت أقرأ كل ما فيه بتمعن من حوادث وأخبار ومقالات حيث كان يكتب فيها يوسف إدريس ، كامل الشناوي وغيرهما وهو ما صنع لي قاعدة صحفية كما كنت حريصاً علي متابعة اليوميات لـ "حافظ محمود ،الحبروك ، سعد مكاوي... إلخ" فقد كانت الجمهورية ثرية جداً.
من أفضال هذا القسم أيضا أنه أكد بداخلي قيمة الحب بين الزملاء والأجيال فكنت أنا الوحيد خريج آداب وكلهم أزهر ودار علوم. كانت لديهم اللغة القوية لكنهم علموني ولم يتعصبوا للأزهرية ولكنهم شجعوني وساعدوني ومنهم الشيخ البشلاوي ، الشيخ عبد البر ، محمود طلبه.
* اعتراف
مازلت أذكر موقفاً يبين مدي تعاونهم ومساعدتهم لي ففي بداية تعييني كان موعد امتحانات دبلوم التربية ولم يكن لي إجازات وشعرت بأزمة كبيرة وما كان من زملاء القسم في هذا الوقت إلا أنهم كانوا يثبتون حضوري به رغم أنني لا احضر للجريدة.. كانت قيمة جميلة أن يقصدوا مساعدة شاب يريد أن يبدأ حياته للحصول علي شهادة عليا.
ورغم ذلك مازلت أشعر بأني "سرقت" شيئاً لعدم إيماني بمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" ولعل ذلك ترك في نفسي "عقدة" ترفض هذا المبدأ.

كيف انتقلت من التصحيح إلي المراجعة؟
رغم ادراكي لأهمية التصحيح بالنسبة للجريدة إلا أنني كنت أشعر بأنه ليس به خلق أو إبداع حيث لا يمكن للمصحح أن يضيف أو يعدل أي شيء وهذا ما دفعني للتململ منه والتطلع إلي قسم المراجعة الذي كان مكانه في الدور الثالث في المبني القديم وكان يوجد به الأستاذ رمضان السادات والأستاذ موسي شرف. وكنت اصعد إليه وأجلس علي مقعد موسي شرف الذي كان يصنع المانشيتات حيث كان يحضر الفترة المسائية ورمضان السادات الفترة الصباحية.
كنت وقتها مازلت مقيداً في قسم التصحيح وكان الشيخ البشلاوي إذا صعد إلي قسم المراجعة ووجدني فيه يقول لي "انت قاعد تعمل إيه يلا يلا إنزل علي تحت" بعد فترة ذهبت إلي الأستاذ أحمد نوار وقلت له تكفي هذه الفترة لتواجدي في قسم التصحيح وانني اتمني الإنتقال إلي قسم المراجعة.. وكان رمضان السادات قد علمني التركيز في الصياغة وهو أهم شيء في الصحافة والذي لابد أن يتوافر معه الثروة اللغوية وإدراك المعني ، اللماحية ، وقد تعلمت منه الكثير وعندما انتقلت إلي قسم المراجعة انفصل عملي عنه لانني كنت مضطراً للعمل فترة مسائية وليست صباحية وبالتالي عملت مع موسي شرف الذي علمني أنا ومحمد فودة كيف نكتب مانشيتاً وموضوعاً رئيسياً مما أغضب رمضان السادات.

كيف كنت تتعلم ذلك؟
بداية اؤكد انه لا يوجد أحد يعلم أحدا بالإكراه فالرغبة في التعلم هي الأساس مع وجود معلم يكتب فقط والمتعلم يقرأ فقط ما كتبه أولاً ويقرؤه بعد تصليح استاذه.
وكم كانت فرحتي عندما افتح الجرنال في الصباح وأجد خبراً كتبته منشوراً كما هو دون تعديل ولكن هذه الفرحة كانت تصاحب أول خبر فقط أما الثاني فكنت اقارنه بجرائد أخري أي انني كنت انقد نفسي في العنوان والصياغة والفكرة.

ما هي الظروف التي كانت تضطرك إلي العمل فترة مسائية؟
أولاً لقد تم اختياري لكتابة عناوين الصفحة الأولي بعد التأكد من انني أكتب بأسلوب جيد وكانت الصفحة الأولي في عهدة موسي شرف الذي يعمل فترة مسائية.
ثانيا: كنت في هذه الفترة قد تعرضت لموقف قد يحسدني عليه الكثيرون وهو خبر تعييني بواحدة من الوظائف التي توفرها القوي العاملة حيث انني خريج آداب وقد تم تعييني "عضواً فنياً في المنطقة التعليمية" في شبرا بجوار سكني.. كما كنت مقيداً بكلية التربية لعمل دبلوم في التربية وكنت في هذه الفترة متزوجاً وربما هذا ما كان يخفف من معاناة العمل.. فهذه الزوجة اعانتني بالتشجيع والصبر علي الإحتمال والإستمرار في بذل الجهد. وما كان مني إلا أن كنت أذهب في الصباح إلي المنطقة التعليمية وبعد الظهر في الكلية وفي الجمهورية مساء.

هل كان لغضب رمضان السادات تداعيات؟
 بالفعل.. فقد أدرك رمضان بعد فترة انني أعمل في عمل آخر وكان القانون يمنع الجمع بين وظيفتين ولكن لم أكن وقتها مخالفاً لأن الصحافة ليست حكومة ولكنه أرسل شكوي بذلك ولكن تم تجاوزها ولم يتخذ ضدي أي إجراءات ولكن هذا الموقف ترك بداخلي رواسب كثيرة فقد كنت أدين بالفضل بداخلي لهذا الإنسان ولكني فجأة شعرت باتخاذه موقفاً عدائياً ضدي.. فهذا الإنسان الذي فتح لي الباب هو نفسه الذي قدم شكوي ضدي.


ماذا عن طبيعة عملك في المنطقة التعليمية؟
كانت وظيفتي عضو فني "مادة تفتيش الدراسات العملية" وهي وظيفة بلا عمل وكانت الميزة بها عدم وجود إلزام للحضور وكنت وقتها قد تعرفت علي الفنان عدلي كاسب الذي كان يعمل مفتش دراسات مسرحية. وكنت أعمل تحت رئاسة اثنين من المفتشين احدهما طيب والثاني ظل يضطهدني لانني لم أكن احضر وتصادفت فترة انشغالي الشديد في دبلوم الدراسات العليا حيث كانت تتطلب تدريباً عملياً في المدارس فقد درست في مدرسة خليل أغا الثانوية ، شبرا الإعدادية ،مدرسة ابتدائية في القلعة.. في ظل هذا الإنشغال كان هذا المفتش يجبرني علي الحضور.. وبعد انتهاء الدراسة وحصولي علي الدبلوم كان يوجد وقتها قرار بضرورة الإستفادة من الدبلومات التربوية فتم نقلي بتحريض من هذا المفتش إلي مدرسة السيدة خديجة وهي بجوار سكني.

ألم تعمل في أقسام أخري غير التصحيح والمراجعة؟
عملت فترة كمندوب في قسم الأخبار وكنت اغطي أخبار أمانة الإتحاد الإشتراكي في الجيزة ولكني لم أكن أحب هذا العمل. فالمندوب دائما له مصدر وان لم تكن هنا العلاقة متكافئة فانني اشعر بالدونيه. هنا كنت اشعر بعدم التكافؤ فهو يعطيني الخبر وأنا أقوم بالنشر وان لم تسر العلاقة بهذا الشكل تكون المشكلة. فحادثت نفسي "وما يجبرني علي ذلك".
واتذكر هنا كلمة قالتها لي زوجتي رحمة الله عليها: "أنت عامل زي اللي بيشحتوا الكلام من بق الناس".
وصحيح المصدر يتحدث والمندوب يكتب وراءه فقط دون أن يكون له أي دور ايجابي. فهو متلق فقط. كما أن المندوب لابد وأن يكون قارئاً جيداً حتي يرد المصدر وأن يكون جريئاً أيضاً وبالطبع فكرة الجرأة هذه لم تكن متوفرة لدي فأنا خجول وانطوائي إلي حد كبير.

هل وجدت شبهاً بين مهنة التدريس ومهنة الصحافة؟
شبه كبير فالتدريس يكون موجهاً للطلبة والصحافة موجهة للمجتمع.. أنا أري أن الصحافة هي مدرسة أكبر ولكنها مدرسة.

لماذا قدمت للدراسة بكلية التربية؟
بعد حصولي علي ليسانس الآداب تقدمت بأوراقي للدراسة بكلية التربية من أجل الحصول علي وظيفة.. فمن الصعب أن يظل الشاب دون عمل وينتظر أن ينفق عليه الأهل. وقد كنت من طبقة متوسطة يعمل والدي موظفا ولديه ستة أبناء كنت أنا أكبرهم لذا كان لابد من البحث عن عمل.
* هنا أتذكر جناية الصحافة عليّ وهي حرماني من الدراسات العليا فإندماجي فيها أخذ مني الوقت حيث كنت أعمل يومياً حوالي 18 ساعة.
* كما قلل ذلك من قراءاتي فيما عدا ما يتعلق بطبيعة العمل كقراءة الجرائد والمجلات لمتابعة الأحداث ، أما الكتب الأدبية التي كنت أحبها فقد بعدت عنها.

ولماذا اخترت التخصص في دراسة علم النفس؟
كنت أحب علم النفس كعلم لأن الإنسان دائماً حواره داخلي يدور علي تفسير لما يحدث بداخله وكنت أحياناً أقوم بتطبيق ما أقرأه علي ما أشعر به داخلي.

كيف تري ثورة يوليو؟
أنا من أبناء الثورة المخلصين. فأنا مؤمن بعبدالناصر إيماناً ليس له حدود ولا شك أن ذلك قد أثر كثيراً علي عملي بالصحافة ولأن الإيمان له قاعدة من الإستفادة فأري أنني استفدت من الثورة كثيراً ففي السنة الأولي من الجامعة لم تكن توجد مجانية التعليم الجامعي وكنت أسدد عشرة جنيهات قسطاً أول وعشرة أخري قسطاً ثانياً وكنت قد تأخرت في تسديد القسط الثاني لأني لم أملك الجنيهات العشرة. قررت الثورة مجانية التعليم العالي وأصبحت المصروفات 2.50 فقط فقمت بتسديدها واستكملت الدراسة.
وهكذا أتاحت الثورة لي ولغيري الفرصة لإستكمال التعليم وهؤلاء هم الذين بنوا مصر بالفعل.. مصانع ومزارع والسد العالي ..الثورة بلا شك هي التي صنعت مصر.
أؤكد أنا ناصري ومؤمن بالناصرية وبصرف النظر عن هزيمة يونيو التي حسبت علي عبدالناصر فأنا أنظر لها بشكل واقعي فكم من دول كبيرة دخلت حروباً وانهزمت فانهارت ولكن العبرة بحجم ما تم إنجازه وقد أنجرنا مع عبدالناصر فكان لنا دور عربي.. عشنا مع مشاكل إفريقيا ، حتي أنني أتذكر وأنا طالب ثانوي أنني كنت أعايش أحداث دول إفريقية وهذا لا يصنعه إلا إعلام قوي له فكر. أما الآن في ظل جوع الشعب كيف له أن يفكر في السياسة وهو مهموم بالبحث عن لقمة العيش. لقد كنت أعمل حوالي 13 ساعة يومياً ولا أهتم كم سأتقاضي. كنت أمارس حياة واستمتع بها.. لقد عشت الصحافة التي كان لها هدف. عشت عصراً جميلاً يسعي إلي تحقيق أهدافه. ولكننا للأسف عشنا ضربة في 1967 ضربة للبلد وللصحافة وشعرتها ضربة شخصية لي لأني جزء من مصر.
وهذه هي مشكلتي فإحساسي بمصر كمصري كان دائماً أكبر من أي شيء فقد عشت مصر في فترة كنا نصنع فيها "جرنال" يروج لأفكار الثورة التي قامت بعدها لتزيد إيمان بها ووجدت كيف أن التغيرات التي أحدثتها خدمت مصر بشكل كبير.

لماذا تم اختيارك لعمل مانشيتات الجمهورية؟
لأني كنت أمتلك مهارات تؤهلني لذلك منها الثروة اللغوية، بلاغة الكلمة،الإيجاز.

هل تذكر مدير تحرير الجمهورية في هذه الفترة؟
كان يوجد 3 مديرين تحرير هم: عبدالحميد سرايا، سعد الدين وهبة، عبدالعزيزعبدالله .وكان محمود عبدالعزيز مساعد مدير تحرير.. كان إنساناً محترماً.. متواضعاً.. خلوقاً.. يحترم الآخرين وقد اعتدت منه احترام الآخرين حتي يحترمونني. ولكن هذا الشخص مات في حادث بالطريق الصحراوي وكان هو الرجل الثاني بعد مدير التحرير يأخذ الشغل كله ليراجعه.
 ومازلت أذكر عبدالعزيز عبدالله بالخير فهو الذي منحني الثقة بنفسي وأتاح لي فرصة الجلوس مع عظماء مثل نعمان عاشور، ثروت أباظة،عبدالرحمن الشرقاوي ،وفنان تشكيلي كبير هو الجباخنجي الذي كان مسئولاً عن باب للفن التشكيلي كان ينفذه هو وكانت الجمهورية بفضله هي أول صحيفة تتضمن مثل هذا الفن وبعد وفاته لم يستمر الباب إلا ببعض اهتمام من محمود خطاب رحمة الله عليه.

ما الذي تعلمته من هؤلاء؟
 تعلمت أن أكثر الناس عظمة هم أكثرهم تواضعاً.. فكلما كبر الإنسان كثر تواضعه. لقد نشأت في مكان لم يكن فيه باب مغلق لمسئول كان كل من يريد محادثته يحادثه في أي وقت لذا عندما توليت منصب مدير تحرير لمدة "25" عاماً لم أغلق لي باباً ولم تكن لي سكرتارية وذلك لأني تربيت في بيئة هذا هو تفكيرها وقناعتها.
 لذا أنا أشفق علي الصحفيين الجدد من البيئة الصحفية الحالية فلقد كنا نحن نتعلم من أحاديث بين هؤلاء العظماء ولكن الآن من أين يتعلم الشباب؟
* أتذكر موقفاً يدل علي عظمة أخلاق هؤلاء ممن تربيت علي أيديهم والموقف يخصني أنا وعبدالعزيز عبدالله تحديداً في فترة كان موسي شرف قد أصابه المرض واضطر لإجراء عملية جراحية وكنت أثناء مرضه أقوم بكتابة المانشيتات بعلم عبدالعزيز عبدالله مدير التحرير وكنت قد كتبت يوماً مانشيت "أمريكا قائدة الثورة المضادة" وإذا بـ "فتحي غانم رئيس مجلس الإدارة" يقول لـ "عبدالعزيز عبدالله" "جالك شكر علي المانشيت بتاعك" فقال له عبدالعزيز عبدالله "مش أنا اللي عملته ده ناجي قمحة".
كيف يؤكد هذا الموقف أن مثل هذا الإعتراف لا يقلل أبداً من قيمته لأنه هو كمدير تحرير أحسن اختيار الشخص وأحسن توجيهه حتي وصل به إلي هذا المانشيت. وللأسف أقارن ذلك مع ما يمكن أن يحدث الآن وأفضل أن أعيش علي معاني وقيم الماضي الجميل.

ما هو سر هذا العداء الشديد لإسرائيل؟
هذا العداء له أصول منذ الطفولة.. ففي عام 1948 كانت والدتي وعمتي في الخارج وكنت أنا وأخوتي وحدنا في المنزل وحدثت غارة وكم كنا في غاية الرعب فنحن مجموعة من الأطفال شعرت بخوف شديد لحظتها. هذا الخوف ترجم إلي كراهية شديدة.
أيضا حادثة بحر البقر بكل ما حملته من بشاعة وقد كتبت أنا مانشيتاتها.
أيضا أذكر أن ابني الوحيد "أحمد" ولد في عام 1970 وكنت ذاهباً لرؤيته بالمستشفي وحدثت غارة وأنا في طريقي إليه.كل هذه الكراهية كونت معركتي مع إسرائيل.

كتبت الكثير من المقالات ثم توقفت ولكنك استمررت في كتابة القصائد لماذا؟
كما قلت إن النيل كان ملهماً لي.. وكنت أكتب الشعر وتأثرت كثيراً بـ "علي محمود طه". إبراهيم ناجي وغيرها كنت أكتب في الحب دون وجود حبيب معين أكتب له وهذا هو الحب عندي "حب مجرد" فدائماً أي رغبة يقابلها اكتفاء والحب عندي هو حب بلا نهاية. لا يعني ذلك عدم وجود تجارب بحياتي فقد مررت بالفعل بتجربة هي التي عمقت حالة الحزن بداخلي وكما قلت هي تجارب عديدة حيث إن الإنسان الرومانسي لا يستطيع العيش بلا حب.
رغم كتاباتك المتعددة إلا أننا لا نجد لك سوي مؤلفين اثنين كيف؟
كان لعملي في قسم التصحيح أو المراجعة أو حتي بحكم منصب مدير التحرير السبب في سلب قدرتي علي الكتابة الذاتية فقد كنت أعمل لفترة تصل إلي 18 ساعة يومياً ليضيع كل هذا الوقت في صياغة ما يكتبه الآخرون واعتبر أن جناية الصحافة كانت قتل إمكانية أن أصبح أديباً حراً.
وقد قاتلت لأنضم لاتحاد الكتاب وأصدرت مؤلفين فقط لهذا الغرض لإرضاء رغبتي الداخلية.. ورغم أن المادة موجودة وبكثرة لإصدار عدة مؤلفات إلا أن الوقت كان عائقاً لذلك. والآن بعد أن ملكت الوقت فقدت الرغبة.

ماذا عن السفر في حياتك؟
أول رحلة للخارج كانت إلي ألمانيا الشرقية في 1971 وكان لها قصة قد تكون مرتبطة ببداياتي مع "فتحي غانم ـ رئيس مجلس الإدارة" وقتها.. وهي بدايات يرثي لها.
ففي عام 67 ونحن علي أبواب الدخول في أزمة مايو كنت أعمل مع "عبدالعزيزعبدالله" وأكتب المانشيتات وموضوعات أخري في الصفحة الأولي. وكان من المعتاد عندما يكون لدينا ضغط كبير في العمل أن ننتهي من موضوعات الجرنال ثم نبدأ في المانشيتات وكنت قد بدأت العمل في الساعة السادسة مساء وقرأته وكتبت مانشيتاته وانتهيت منه في الحادية عشرة مساء.
وذهبت إلي "فتحي غانم" أقول له: "مانشيتات الجرنال أهي" وكان وقتها يلعب الشطرنج الذي كان يهواه جداً.. نظر لي وقال: "إيه ده؟".. قلت: "مانشيتات الجرنال" قال: "هو احنا بنشتغل في محششة"؟.
وبالطبع صعقت لأني لم أعتد علي مثل هذه المعاملة وتركت مكتبه لأذهب إلي "عبدالعزيزعبدالله" فذهب هو إليه وشرح له الأمر وأوضح له أن هذا خارج عن إرادتي لأني مكلف بأعباء كثيرة ولم أسأل بعد ذلك ماذا حدث لإيماني بأن عمل الإنسان هو الذي يتحدث عنه.
لذا كان "فتحي غانم" إذا ذكرني في موقف لم يذكر سوي كل احترام وتقدير وهذا ما جعلني أكن له كل اعزاز وتقدير.
* وأذكر جملة قالها "فتحي غانم" في وجود "موسي صبري" عندما كان في الجمهورية. وكنت أنا أكتب مانشيتات الجرنال أيام حرب الاستنزاف وكانت قد أعجبته فقرأها موسى صبرى أمام الجميع ثم قال لى فتحى غانم: أري فيك رئيس تحرير المستقبل. ولم أدر حتي الآن هل كان يوجه الكلمة لإغاظة "موسي صبري" أم ليمدحني بالفعل. ولكن المؤكد أنها نبوءة لم تتحقق ولن تتحقق بالطبع.
وفي إحدي المرات ونحن ساهرون في الجرنال.. مر "فتحي غانم" فوجدني أعمل في صمت وذلك بسبب انطوائي وعدم ترحيبي بالتواصل مع الآخرين. فقال "الراجل اللي قاعد ده لازم يسافر" فرشحني للسفر مع القيادات الصحفية الاشتراكية في دورة في ألمانيا الشرقية تابعة للاتحاد الاشتراكي. وتم عمل اختبار لكل المرشحين للسفر وكان منهم زميلنا "إبراهيم أحمد" رئيس قسم الأخبار ودخلت الاختبار مع مجموعة من عتاة الاتحاد الاشتراكي.
بعدها أخبرني "إبراهيم أحمد" بنجاحي في الاختبار ولكن يتبقي قرار السفر. وكان وقتها الترشيح لهذه الرحلة من الجمهورية فقط فقالوا الأفضل يكون واحد من الجمهورية وواحد من المساء وكان وقتها "إبراهيم أحمد" في التنظيم الطليعي. وقتها تم اختيار "سعد أبوالسعود" من المساء ولم أعرف حتي الآن إن كان ذلك بعلمه أم لا رغم علاقتنا الوطيدة ورغم أننا عشنا سنة كاملة في ليبيا في غرفة واحدة ولكنى لم أسأله يوماً عن ذلك.
المهم أن "إبراهيم أحمد" قد اصطحبني إلي مقر الإتحاد الاشتراكي ومكانه وقتها كان مكان الحزب الوطني الحالي وكان يرأسه ضياء الدين داود وكان بالصدفة نازل فقابلناه وسأله "إبراهيم أحمد" عن أعضاء رحلة ألمانيا الشرقية فقال له: "لسه منزلتش".. فقال له إبراهيم: لا نزلت يافندم وأوضح الموقف إنه كاذب وسقط من نظري حتي الآن رغم إيماني بالناصرية ورغم أنه جاء بعد ذلك أمين الحزب الناصري إلا أنني لم أؤيده يوماً لأنه ترك لديّ انطباعاً بأنه كاذب وعلي العكس احترمت "إبراهيم" جداً لأنه وقف وتحدي رغم أن الأمرلم يكن يخصه.
وبالفعل سافر "إبراهيم" و"سعد" والقيادات الصحفية الشابة ورغم أنني لم أسع للسفر وكان ترشيحى من "فتحي غانم" إلا أنني لم أشك له.
بعدها فوجئت بترشيحي للسفر مع نقابة الصحفيين ووسط مجموعة هائلة منها اللباد- جلال السيد. وكان من المقرر أن تكون 6 شهور كالتي نظمها الاتحاد الاشتراكي. ولكن في هذه الفترة كان السادات قد قلب الدفة وأيد أمريكا وهاجم المعسكر الشرقي ومنه ألمانيا الشرقية. فما كان منهم إلا إساءة معاملة البعثة المصرية.. وبمجرد وصولنا أخبرونا أن بعثتنا 3 شهور فقط. وكان في هذه الأيام من المعروف أن أي بعثة توفر لها الدولة المضيفة ملابس شتوية حيث إن درجات الحرارة هناك منخفضة جداً تصل لعشر درجات تحت الصفر. وانتظرنا العطايا ولكنهم لم يمنحونا شيئاً إلا بالطو وشمسية لكل فرد.
كنا قد نزلنا هناك في مكان اسمه "كارل ماركس" وتم تدريبنا في جرنال إقليمي وقد أخذت عنه فكرتين حيث قمت فيما بعد بعمل صفحتي أقاليم واحدة تذهب مع وجه قبلي وأخري مع وجه بحري لكن هذه الفكرة لم تستمر إلا شهوراً بسبب أخطاء التوزيع فكان أحياناً يتم إرسال جزء للصعيد ويتبقي جزء فيتم إرساله لبحرى وهكذا. ولأني مدير تحرير فقط فكانت قدرتي علي التغيير محدودة وليست مطلقة.
ولا شك أن هذه الرحلة أفادتني كثيراً من حيث الرؤي للعالم الخارجي ومشاهدة مجتمعات لم أكن أراها إلا في السينما فقد أعطتني الطبيعة هناك زاداً أدبياً وشاعرياً ورومانسياً لا حدود له. فقد كنت أري غابات لأول مرة.. عرفت هناك التقنيات الحديثة ومنها الفاكس.. عرفت رياضات حديثة ومنها البلياردو.. رأيت متحف الآثار الفرعونية التي كنت أراها لأول مرة.. حتي الملاهي كان لي تجربة معها ففيها كانت أول مرة أرقص ولم يكن رقصاً بالمعني المعروف ولكن كنا مجموعة وجدنا الآخرين من حولنا يرقصون وكنا قد تعلمنا بالألمانية كيف نحادث فتاة ونطلب منها الرقص.. ورقصت مع عارضة أزياء بولندية ولا أدري حتي الآن كيف جاءت لي هذه الجرأة..و من أكثر الأشياء التي استرعت انتباهي هناك أنني عندما قابلت رئيس تحرير الجرنال الذي تلقينا فيه التدريب وجدت عنده ماكينة صنع القهوة والشاي ويقوم هو بنفسه بصنع ما يريد.
وفي موعد الغداء كان كل واحد يقف في طابور ومعه صينية وفوجئت بأن رئيس التحرير يقف في الطابور كأي فرد آخر وشعرت بمدي تواضع هؤلاء رغم أني كنت أعايش شخصيات متواضعة مثل "إبراهيم نوار" ولكن مهما وصل التواضع لن يصل إلي حد أن يحمل صينية ويقف في طابور ليأكل.. أيضا من خلال هذه الرحلة كونت صداقات مع زملاء آخرين فقد كنا في غرفة واحدة.. ورغم أنه قبل السفر كنت وأحد الزملاء وهو " عزب شحاته " علي خلاف بسبب رفضي لمستخدم الألفاظ البذيئة والثورة المفاجئة.. إلا أن هذه الرحلة التي منحتني الفرصة للإقامة معه في غرفة واحدة ثلاثة شهور جعلتني أكتشف أنه إنسان طيب ووديع بعكس ما يظهر وتعلمت ألا أحكم علي إنسان من الظاهر فالمكان والزمان يؤثران في الأسلوب. لذا تعلمت وأنا مدير تحرير أتعامل مع المحررين أن المحرر إذا لم يقدم ما كلف به ألتمس له العذر خاصة إذا كان قد أنجز عمله من قبله ولكن ذلك لا يمنعني من سؤاله وعتابه بنظرة.. لذا لم أوقع ورقة واحدة فيها جزاء ولم أسبب أي أذي لأي أحد طوال "25" عاماً.
* أتذكر هنا موقفاً طريفاً بيني وبينه عندما قررنا تناول الغداء في منطقة كارل ماركس وكان من المعروف أنه كلما ابتعدت عن العاصمة تنمحي اللغات الأخري وبالتالي كان من الصعب أن تجد من يفهم حتي الإنجليزية. وعندما ذهبنا للمطعم طلبنا "تشيكن" ولكنهم لم يفهموا قلنا "هن" ولم يفهموا فقال لهم " عزب شحاته" "كوكوكو" وضحكنا كثيراً.
أما الغريب بالنسبة لي في هذه الرحلة أنني عدت بشنطتين من لعب وملابس الأطفال. فقد كان ابني "أحمد" عمره ستة أشهر وكان كل اهتمامي به.
وانتهت المدة وكانت حركة مايو قد حدثت وتم القبض علي مجموعات كثيرة وكنا قد رجعنا قبل بعثة الاتحاد الاشتراكي وعندما عادوا هم كان في انتظارهم سيارات أمن الدولة من المطار إلي أمن الدولة.. هؤلاء هم من كان من المفترض أن أكون معهم وظلت بالطبع هذه وصمة في سجلهم ولولا أن أخذ مني "سعد أبوالسعود" هذه الرحلة لكنت معهم.

لماذا سافرت إلي السعودية؟
في عام 1972 سافرت إلي السعودية تاركاً الصحافة لأني لم أتجاوب مع سياسات السادات ولكني عدت في 1976 لأكون مضطراً للتعامل مع خطبه. ولكن قبل سفري كانت هناك واقعة ربما ساهمت في قرار السفر.. كنت أنا و"محمد فودة" قد شعرنا بوجود فوارق في المرتبات وذهبنا إلي مصطفي بهجت رئيس مجلس الإدارة وحادثه "فودة" في الأمر.. كنت وقتها أتقاضي "77 جنيهاً" وسألني "مصطفي بهجت" سنك كام سنة فقلت "32" فقال لنا ما يعني إننا "مش مظلومين" ولم يعدنا بأي شيء. وخرج "فودة" وأنا وراءه وكان الصراع بداخلنا وقتها أن المجتمع لم يعد هو الذي يقدر التضحية وأصبح هناك من يعيش بالتخلي عن الشرف ومن لم يستطع كان  يهاجر إلي الخارج. وكانت ظاهرة الهجرة غريبة علي مصر التي كانت تتم الهجرة إليها وليس منها.
ولكن بسبب ما حدث في المجتمع كان عليك إذا أردت البقاء في الوطن ان تتعامل وفق قيم جديدة قيم "اللي يلحق ياخد واللي ميلحقش ذنبه علي جنبه".
واخترت السفر وذهبت علي اني مدرس لغة عربية للمرحلة الابتدائية بمكان بجانب الدمام ولم أستطع حتي اكمال العام الدراسي لرغبتي في العمل الصحفي وحاولت أن أعمل بالصحافة هناك ولكني لم أتمكن من ذلك لقصر الوقت.
ولكني أذكر هنا موقفا ربما يكون طريفا ولكنه يؤكد ان مصر لم تغب عن ذهني أو قلبي للحظة.
كنت مشرفا علي الإذاعة المدرسية بهذه المدرسة وسمعنا هناك بخبر اسقاط إسرائيل لطائرة "سلوي حجازي" وما كان مني إلا أن ألقيت خطبة في الإذاعة المدرسية وأعلنت الحداد وأذعت آيات قرآنية.. رغم ان الكلام في السياسة كان محرما في السعودية.. وأنقذت بأعجوبة من الترحيل ولكن أدي ذلك إلي إلغائهم للإذاعة المدرسية تماماً.

وما هي قصة السفر لليبيا؟
بعد وقف اطلاق النار كان مجموعة من الزملاء اليساريين الاشتراكيين المؤمنين بالعدالة الإجتماعية قد كونوا جريدة الفجر الجديد الليبية وفكرت في السفر معهم.
وفي يوم كنت أسير في شارع طلعت حرب بمنطقة وسط البلد وكان معي زميلي "أحمد البرديسي" ومررنا علي شركة الطيران الليبية ودفعني حب الاستطلاع إلي قراءة ورقة معلقة علي بابها فوجدت مجموعة من الأسماء ومنهم ناجي أحمد جمعة ودخلنا لنسأل وتأكدت انني المقصود.. ووجدت نفسي أمام قرار السفر الصعب ولكن احساسي بخسارة اللعبة بعدما أفرغنا كل ما في جعبتنا في حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر التي انتهت بهذه الطريقة كان لابد أن أبعد.
كان وقتها مدير التحرير عبدالعزيز عبدالله وكان معتمداً عليّ ولم أستطع وقتها اخباره بقرار السفر.. أيضا كيف أسافر ومصطفي بهجت الذى قال لي "انت مش كبير والمرتب كفاية عليك" ومنحني مكافأة 30 جنيهاً شهرياً أي حوالي نصف مرتبي.. كيف بعد كل هذا أن أطلب السفر فكنت متردداً ولكن حسم هذا التردد بداخلي موقف خاص حدث لي ففي يوم من الأيام مرض ابني الوحيد وعالجته عند طبيب كبير ولكنه كتب له أدوية غالية الثمن ولم أكن أملك ثمنها ولم أكن أيضاً اعتدت الاقتراض من أحد ولم يحدث هذا مطلقاً طوال حياتي وربما هذه النقطة توضح سبب البخل الذي اتهم به.. فاذا طلب مني أحد اقراضه فأنا أرفض حتي إذا كنت أملك المال.. وذلك لإني أعتبر العلاقة المادية تزيف العلاقة الإنسانية.
المهم ان هذه المشكلة كانت حاسمة في قرار السفر وعملت في ليبيا ثلاث سنوات ولكن قلبي وعقلي كان مع مصر وكل يوم أقول سأسافر غداً.. ساهم في ذلك انني لم أجد هناك صحافة بالمعني فهو مجتمع بدائي خاصة أن هذه الفترة كانت تالية للثورة الليبية بسنوات قليلة ولم تكن قد نهضت بعد. ومع موجة العداء بين السادات والقذافي لأن القذافي كان يسير علي نهج عبدالناصر وارتكز في ذهنه انه أمير القومية العربية كنا نحن المصريين هناك ضحايا لهذا العداء.. فكان المصريون يطاردون ويتعمدون معهم مثلاً اخراج هوياتهم في المواصلات حتي انني قلت يوما "لو كنا في إسرائيل مكنش حد عاملنا المعاملة دي" وأعتقد أن هذه الفترة كانت من أصعب الفترات وأثرت علي شخصيتي نفسياً وعصبياً بسبب الأزمات النفسية التي عايشتها.
ورغم انني خرجت من مصر رافضاً العمل في ظل سياسات السادات إلا أنني اضطررت للعودة بسبب موقف مع رئيس تحرير الجريدة الليبية الذى كان متخرجاً لتوه من كلية الاداب جامعة القاهرة.
ففي يوم أخطأ الخطاط الذي كان مصرياً في المانشيت وفوجئنا برئيس التحرير وقد قام بخصم يوم لكل الموجودين وأثار هذا الموقف غضبي واتخذت قراراً بالعودة ولكني قلت آخذ حقي أولاً وأكتب له خطاباً أرد به علي ما فعله وفكرت ان الخصم لكل الموجودين علموا به أما الخطاب فلن يعلم به أحد غيره.. فقررت أن أعرض الخطاب علي كل الصحفيين قبل أن أرسله إليه وبالفعل فعلت ذلك وارفقت به استقالتي.. ولم يرد ولم يقبل الاستقالة ولكنه قبلها بعد حوالي شهر ونصف الشهر.. ورغم انه كان هدفي إلا أنه جاء علي غير توقع.
عدت من ليبيا وأنا أعلم جيداً ما ينتظرني.. ففي هذه الفترة من حكم "السادات" كان محسن محمد مهمته الأولي القضاء علي الناصرية واليساريين والاشتراكيين.. ولأنني رجل اشتراكي ومؤمن بالناصرية كنت أعلم انني سأعاني بعد عودتي.. ولكن تجربتي السيئة في ليبيا والتي أضرتني نفسياً واجتماعياً.. فقد ضاعت خلالها صورة ليبيا الناصرية لأري الصورة الحقيقية.. جعلني هذا أقرر ان مهما يحدث لي في الجمهورية سيكون أفضل مما أعانيه في ليبيا.. فمصر هي قدري الذي لابد وان أتواءم مع نظامه الحاكم لانني أولاً وأخيراً لست مناضلاً سياسياً ولكني أؤدي عملي داخل صحيفة قومية وبالتالي أنا أعمل لدي مصر بسياستها ونظامها الحاكم.

* هل خضت تجربة سفر أخري؟
** بالفعل كانت لي تجربةسفر إلي الأردن وكانت بعد عودتي من ليبيا بحوالي ثلاث سنوات.. كنت قد عملت لمدة شهر في جريدة الأخبار الأردنية وكانت تجربة جيدة جداً.. عشت خلالها احاسيس جميلة  عندما كنت أجد كتابا كبارا وصحفيين من جرائد منافسة يأتون لي ليتعلموا كيف أعمل.. ولا شك أيضاً ان ذلك انما يعكس فكر الصحفيين في الأردن ومدي رغبتهم في تطوير أنفسهم دون وجود أي حساسيات مع الآخرين هذا بالاضافة إلي ثقافاتهم العالية وطاقاتهم الكبيرة.
ويستوقفني هنا الحديث عن تجربة العمل في جرنال خاص فقد كانت هذه أول مرة أعمل فيها في جرنال يملكه شخص.. ولكن شعوري عندما كنت أجلس معه أنه مبهور بما أعمل.
وأتذكر هنا مانشيت كنت قد كتبته "لا تضيعوا فرصة السلام" وكانت الأردن وقتها ضد كامب ديفيد رغم ان الملك حسين كان معروفا انه مع الجبهة الأمريكية ولكن كامب ديفيد لم تكن حققت له شيئاً في استعادة الضفة الغربية والقدس ورغم ان التجربة كانت جيدة وثرية الا انني اضطررت للرحيل بعد صدور قرار بتحويلي "لجنة ثلاثية" في حالة عدم عودتي خلال "15" يوما.

* لماذا اضطر محسن محمد إلي هذا الأسلوب؟
** أتصور ان هذا يدل علي تمسكه وقد كانت قناعتي وقتها انه اختارني لانه وجد من يفهم ما يدور بخياله في السياسة كفن صحفي لان الرجل المهني الحقيقي يستطيع ان يلعب علي جميع الأوتار لان الصحافة كالبيانو أو الكمان تجيد النغمة الحزينة والنغمة الخفيفة والثقيلة وكذلك  الصحافة الجادة موجهة نحو خدمة مباديء وقيم السياسات ومشاكل الناس وأعتقد ان هذا سبب حرص "محسن محمد" عليّ وتمسكه بي.. والذي جعله يحطم جميع خططي للسفر.
* إذا لماذا وافق أصلاً علي سفرك للأردن؟
** حقيقة انني لم أسافر  بشكل رسمي أو بطلب رسمي فقد قمت باجازة "15" يوما سافرت خلالها.. ولم أكن الوحيد الذي اتبع هذا الاسلوب.
ولكن هذا الموقف جعلني أتذكر "عبدالعزيز عبدالله" بأخلاقه ورجولته ونبله عندما سافرت إلي ليبيا بنفس الأسلوب وعندما علم لم يقاطعني ووجدته يرسل لي "كارت" بخط يده كتب فيه "أتمني لك النجاح" ولا شك ان ذلك قد فرض علي ذهني مقارنة بين القيادات لا أنفي انني "خدعت" ولكن هناك قيادة سامحتني في مقابل مصلحتي الشخصية وقيادة أخري!! وهذا ان عكس شيء فإنما يعكس روح الجمهورية في هذه الأيام أو تلك

ما هي قصة عدم توقيعك في الساعة؟
كان لي زميل بقسم الترجمة اسمه عبدالحميد عبدالنبي رحمة الله عليه وكان من طبقة الريفيين ولكنه مؤمن ومتحمس ومرح للغاية. كان يترجم من الوكالات وكانت قدراته عالية.. وكانت حواراتنا معا عند عمل المانشيت مفيدة جدا.
وكنت أبدأ عملي من الساعة الخامسة عصراً وأحد الأيام صعدت إلي الخزينة لأتقاضي راتبي فوجدته مخصوماً منه يومان وتساءلت عن السبب فأخبروني ان السبب هو عدم توقيعي في الساعة ونزلت وأنا غاضب وعرف عبدالحميد وظل يمزح معي حول الواقعة.. لحظتها دخل ابراهيم نوار وسأل ماذا حدث قال له عبدالحميد: خصموا يومين لناجي. فسأل نوار عن السبب. فقال له عبدالحميد: "عشان بيجي يشتغل" وضحك الجميع، وما كان من ابراهيم نوار إلا أن طلب المدير العام تليفونياً وسأله عمن فعل ذلك ثم أمره برفع الكارت الخاص بي من اللوحة وظللت حتي هذه اللحظة لا أوقع في الساعة. وقد ساعدني علي الاحتفاظ بتلك الميزة التزامي الشديد.. فأنا دائما موجود في المكان.
وبصراحة شديدة أري ان الصحفي قد يكتب موضوعا في خمس دقائق ويكون قيمته بيوم كامل قضاه. فلابد أن يأتي إلي الجرنال بحب ويحب عمله وعطاءه له.

قيادات كثيرة قادت الجمهورية فأي قيادة كانت الأفضل من وجهة نظرك؟
لقد كانت فترة "محفوظ الأنصاري" هي أفضل فترة بالنسبة لي فقد صنعت فيها اسما خاصا بي.. حيث كان يترك لي أموراً كثيرة أديرها.. كما ان دوري في مجلس التحرير كان كبيراً وهاماً.
أما فترة "محسن محمد" فكنت أهتم فيها بما يريد هو. وفي فترة قام السادات فيها بتغيير الأعداء إلي أصدقاء والعكس كان اقناع الشعب بهذا أمراً في غاية الصعوبة فأغلق موضوع السياسة تماماً واهتم بصحافة "سوق الخضار" وغيرها وكانت الناس وقتها قد ملت السياسة والحرب وخلعت جلدها.. لذا أولي اهتمامه بالمحليات.
ثم جاء محفوظ الأنصاري وهو مثقف وفاهم ويثق في الخبرات القديمة ومنهم أنا.. واستطعت في عهده أن أجعل الجرنال يتوافق مع حبي للمجتمع ودفع الشباب ومعايشة مشكلاتهم ومن هنا جاءتني فكرة فريق الانتشار السريع واخترت 12 صحفيا ويتوجهون لأماكن الحدث لتغطيته والكتابة عنه يومياً.

ما هو شعورك وقد بدأت بقسم التصحيح وسنوات ليست بكثرة أصبحت مديرا للتحرير؟
أولاً أؤكد أن العمل بقسم التصحيح يتشابه كثيراً مع العمل كمدير تحرير. ففي الحالتين الجرنال بأكمله أمامي أشاهده وأقرأ كل كلمة فيه.
وقد بدأ هذا الشعور يراودني في عام 1980 وأنا مدير تحرير أجد نفسي أقوم تقريباً بنفس الدور الذي كنت أقوم به في عام 1961 وأنا في قسم التصحيح.
الاختلاف هنا فقط في القدرة علي اتخاذ القرار أو صلاحية اتخاذ القرار ولكن في الحالتين أري كل المادة الموجودة في الجرنال وأتعلم وأبدي اعجابا أو أبدي غضبا وكل ذلك كون لديّ خبرة كبيرة.


حدثنا عن الجمهورية في العهود الرئاسية المختلفة؟
بداية أؤكد أن الصحافة لا يمكن أن تكون عملاً منعزلاً عن المجتمع أو السياسة.. فهي مرآة المجتمع.. إذا كان المجتمع هابطاً تكون الصحافة هابطة. أما إذا كان المجتمع يواجه تحديات ويناضل من أجل تحقيق أهداف معينة فإنه يجد الصحافة سلاحاً تشارك به في تحقيق تلك الأهداف.
فعلي سبيل المثال في أيام حرب الاستنزاف كانت مصر تحارب بالمدافع والصحافة ووراءها المجتمع كله تشحذ الناس علي الصمود والمقاومة والمواجهة وانكار الذات.
ففي الوقت الذي كانت تدخل فيه إسرائيل بطائراتها العمق سواء في بحر البقر أو أبوزعبل أو نجع حمادي كانت الصحافة بمنتهي القوة تشحذ الناس وتخفف من وطأة التأثير النفسي الذي قد يبثه بعض أصحاب المصالح من إحباط الشعب. ولكن للأسف اليوم لا تجد شعباً لأن الشعب قد تم إحباطه بفعل العوامل النفسية التي أحياناً ما تكون أقوي من المدافع والقنابل ومعروف أن حرمان الإنسان من لقمة العيش والعدل كفيل بأن ينزع من داخله الشعور بالانتماء.
* أولاً فترة عبدالناصر بعد عام 1961
في بداية حديثي عن هذه الفترة أود أولاً أن أنفي مقولة كانت بمثابة اتهام لعصره.. كان يقال إن كل صحيفة بها رقيب ولكن هذا الكلام غير صحيح فلم تفرض الرقابة علي الصحف إلا بعد 1967 وكان نتيجة مقال كتبه أحد الكتاب في الجمهورية وكان قد تعرض فيه إلي القوات المسلحة بالسخرية وكلنا يعلم أن الفترة التالية للنكسة كانت الأحلام المحلقة في السماء قد تبخرت ورأينا الكارثة التي حُملت للقوات المسلحة وليس لعبد الناصر كمسئول سياسي لأنها كانت في ذلك الوقت هي المهيمنة علي كل شيء وكانت هي القوي القاهرة التي تحافظ علي مصالح البلد وهي الانضباط والأمل وكل شيء.. وفجأة وجد الناس أن الجيش يجري من سيناء وجاء قرار الانسحاب بعد تحطم طائراتنا الذي لم تكن الناس تعرف عنه شيئاً ولكنهم استيقظوا فقط علي الهزيمة وكانت بمثابة صدمة حتي ان البعض بدل أغنية شهيرة للفنانة شادية "قولوا لعين الشمس ماتحماشي لحسن حبيب القلب صابح ماشي" بدلوها "قولوا لعين الشمس ما تحماشي ده جيش العرب راجع ماشي".
وكشعور أولي كان الشعب بأكمله مستاء جداً لذا سخر هذا الكاتب من الجيش.
ولكن هل من المنطقي وأنا كدولة في طريقي لإعادة بناء وطن قد تهاوي.. هل أترك المجال للسخرية من الجيش لتثير روح اليأس والإحباط وليس الحماس.
لذا كان من الأجدر بالصحافة في هذه المرحلة أن تعيد بناء الروح النفسية.. ولأن ما حدث هو العكس فاضطرت القيادة السياسية إلي فرض الرقابة. وكان الرقيب موجوداً بالفعل ويقرأ كل ما يكتب.
وهذا التبرير أو إظهار الحقائق لا يعني تأييدي للرقابة ولكني أري ضرورتها في أوقات معينة نحتاج فيها أن تكون هناك كلمة واحدة لرفع الروح المعنوية بدلاً من روح الإحباط المسيطرة.
* ولقد ضمت صحافة عبدالناصر مختلف الأطياف السياسية تماماً مثلما اجتمعت كافة هذه الأطياف في انقلاب علي الملكية فقد ضمت الاخوان المسلمين - الشيوعيين - الاشتراكيين - كلها تآلفت ضد النظام لأجل اسقاطه وبعد السقوط قد يحدث الانشقاق وقد عبرت الجمهورية عن ذلك فقد أنشأها السادات واختلفوا كمجموعة حول صياغتها وتوجهاتها فتولاها صلاح سالم وهكذا فكانت الصحافة مرآة لما يحدث بين القوي السياسية تماماً مثلما استبعد خالد محيي الدين لأنه شيوعي وجاء عبدالرءوف الرجل الثاني في الثورة وهو من الاخوان المسلمين ثم أدخلوه السجن لأنه من جماعة محظورة.
* وقد تعرضت الجمهورية لتقلبات كثيرة منها انقلاب صلاح سالم رئيس تحرير الشعب وكان توزيعها في ذلك الوقت كبيراً وكانت الجمهورية تعاني من حركات فصل الصحفيين وإعادة التعيين وكانت الرؤية أن يكون للثورة جرنال واحد فقالوا نلغي الجمهورية لان توزيعها أقل وعدلوا عن الفكرة لان اسمها "الجمهورية" خاصة وأن الترخيص كان باسم عبدالناصر فضموا الشعب إليها وأصبح اسمها الجمهورية جريدة الشعب وحدث نوع من الاستقرار.
* وكان من سمات الجمهورية انها جريدة الطبقة الوسطي فكان من يدخلها للعمل كلهم من أبناء هذه الطبقة فيما عدا بعض العناصر من كبار المزارعين ممن لم يقدرون معني الثورة وما قدمته وهؤلاء كانوا يمثلون رأياً آخر غير رأي أبناء الثورة ومن هؤلاء "محمد الحيوان" الذي بدأ كمحرر للصناعه.
وكان رأي "عبدالناصر" أن تصل الصحافة للناس وتعبر عن احتياجاتهم ومشكلاتهم.
لذا كان توجه الجمهورية الصحفي نابعاً من الثورة وأهدافها وأيضاً من انتماء القائمين عليها من أبناء الطبقة الوسطي.
ولكن تغير ذلك في ظل انشقاق وصراع بين هؤلاء وبين مجموعة نهضت في عصر الانفتاح وانضمت إليهم.
فقد كان كل الناس مع الثورة وفجأة فتحت أبواب أخري غيرت الآراء فكان المبدأ السائد هو الفرد من أجل المجتمع وليس المجتمع من أجل الفرد وهو مبدأ الرأسمالية التي ظهرت بعد عبدالناصر.
* كل ذلك أثير في فترة الانفتاح وحدث أن جزء من الطبقة المتوسطة استعلي أي أصبح هدفه الثروة والصعود إلي أعلي وجزءاً من هذه الطبقة لم يستطع أن يجاري هذا لتمسكه بالقيم فهبط إلي الأسفل وأصبح من الطبقة المقهورة.
وبالطبع انعكس ذلك علي الصحافة فأصبحنا اليوم نسمع عن صحفيين مليارديرات كيف ومن أين لا نعلم؟ ولكن لابد وأنه قد حدث تخل عن مفاهيم وقيم الصحافة.
* وفي رأيي ان الفساد الصحفي قد بدأ مع الانفتاح حيث ضعفت مقاومة البعض للانحراف ضد أهدافه فالبعض وجد زملاءه وأصدقاءه قد أصبح الواحد منهم مليونيراً فأحدث هذا شقاً نفسياً كبيراً بداخله.
وأؤكد أن السبعينيات كانت موطن الهجرة من الجمهورية وعندما أقول الجمهورية أعني مصر ومصر هي الجمهورية. ورغم ذلك ظللت علي تمسكي بالجمهورية ربما لحماس قديم كان بداخلي منذ حرب الاستنزاف عندما كنت أذهب في رحلات "خط النار" فقد كانت الشئون المعنوية بالقوات المسلحة تأخذ مجموعات من الصحفيين للمخابيء ورأيت بعيني خط "المياه" ورأيت العلم الإسرائيلي علي بعد "200" متر علي الضفة الشرقية.. هذه المشاهد جعلتني أبعد ما أكون عن التفكير في المرتب أو المنصب فكل ذلك مؤجل.
فقد كان عبدالناصر قد أوقف حرب الاستنزاف ولكن الجبهة كانت مفتوحة لذا استعان بالروس للدفاع عن العمق المصري وقبل عبدالناصر هذا التدخل الروسي في ظل ضغط الهجوم الإسرائيلي. ولكن هذا التدخل أثار "أمريكا" التي رأت أن هذا الوضع سيسهم في أن تصبح مصر مستعمرة روسية.. لذا ومن هنا كانت مبادرة "روجرز" لوقف إطلاق النار ومحاولة التوصل إلي حل سلمي. واتخذ عبدالناصر قراراً أثناء وقف إطلاق النار بنقل قواعد الصواريخ إلي أول الضفة الغربية حيث إن مدي الصواريخ "15" كيلومتراً وبالتالي يمكنها تغطية قناة السويس.. في هذا الوقت كان الطيران الإسرائيلي قوياً ولم يسمح لنا بتقوية سلاحنا وكان يواجه جيشنا بالصواريخ.
وقبل عبدالناصر وقتها قيام المظاهرات ضده والتي كان يردد المتظاهرون فيها "عبدالناصر الخائن" ولكن ذلك لأن أحداً لم يكن يعلم أنه قبل بما يحدث من أجل تحقيق هدف استراتيجي أكبر لم يعلن هو عنه.
وفي مقارنة بهدف عبدالناصر الأكبر.. نجد أن هدف السادات الأكبر كان تثبيت سلطته والحفاظ عليها.. فعندما استبعد كل مجموعة "عبدالناصر" كان يريد تثبيت مفاهيم وتوجهات جديدة وهي التي زعزعت وحدة مجتمع مصر بعدها تلقينا خبر وفاة عبدالناصر كالصدمة وكانت هذه هي المرة الأولي التي ابتعدت فيها عن الجرنال وتوقفت عن عمل المانشيتات. ولكن بعد الجنازة تم أخذ رأيي في مانشيت الجمهورية رغم صغر سني وقتها.
وكانت الوفاة أكثر أثراً من صدمة 1967 التى كنت أتصور وقتها أن بعد أيام ستضرب طائراتنا إسرائيل.. وعندما تأكد خبر الوفاة شعرت حقاً أننا قد "خسرنا المعركة".

قلت إنك ابتعدت عن الجرنال بعد وفاة عبدالناصر.. فكيف ولماذا عدت في عصر السادات؟
كان مجيء فتحي غانم وتقديره لي هو الدافع للمواصلة رغم انه لم يستمر كثيرا فعندما تولي السادات السلطة ظل فتحي غانم رئيسا لمجلس الإدارة رغم انه كان مع المجموعة السياسية في الاتحاد الاشتراكي مع مجموعة عبدالناصر وظل ستة أشهر في منصبه إلي أن كتب مقال تأييد للسادات هنا فقط أصدر السادات قرارا بإبعاده وإعادة مصطفي بهجت بدوي.
وبدأت "الجمهورية" مرحلة صراع بين الاشتراكيين المنتمين للطبقة الوسطي وكتاب اليسار و أصحاب الصوت العالي وهم طبقة الأغنياء الذين سمح لهم بالهجوم علي عصر عبدالناصر وصدر قرار بالافراج عن المعتقلين السياسيين ومنهم مصطفي أمين وللأسف لم يكن هذا القرار من وجهة نظري تعبيرا عن الديمقراطية فقد انقلب هؤلاء علي الأهداف التي حققتها ثورة يوليو ولاشك ان ذلك قد انعكس علي الصحافة.. فكثرت المشاحنات واختفت إلي حد كبير وحدة الجرنال أو الهدف وأصبح الصوت العالي هو الأقوي.
ورغم ايماني بالثورة إلا انني لم أكن أدخل في صراعات ضد من لا يؤمن بها ولا أسعي للدفاع عنها أو عن عبدالناصر ولكن كنت أحتفظ بأفكاري لنفسي وأرفض تماما الانتماء إلي مجموعة سياسية أيا كانت.
اما عن الجمهورية فى عهد مبارك فعندما تولي الرئيس "حسني مبارك" الرئاسة كان حريصاً علي مقابلة القيادات الصحفية.. وقد تقابلت معه يوماً برفقة "محسن محمد".. وهو سلوك لم أجده بعد ذلك غريباً علي الرئيس فقد كان حريصاً علي ذلك بشكل كبير حتي انه كان دائماً يلتقي بهم في معرض الكتاب السنوي. فوجدته إنساناً متواضعاً جداً وشخصية محبوبة باخلاصه وصفائه وتواضعه.
وشعرت بأنه إنسان وطني إلي أقصي حد.. فقد أمر بخروج من اعتقلهم السادات فيما أسماه بثورة سبتمبر. كما كان له دور كبير في التصدي لقضايا الفساد المختلفة كان له دور كبير في الإصلاح الاقتصادي حتي انه عندما أراد عمل مؤتمر اقتصادي قد دعا كل الاتجاهات سواء اليساريين أو الشيوعيين أو الرأسماليين وذلك لحل مشكلة مصر الاقتصادية لذا أصبح بالنسبة لي وللكثيرين هو "الأمل" فمواطن مثلي ماذا يريد أكثر من ذلك في رئيس الجمهورية؟

* هل أثر ذلك في عملك المهني؟
** بالفعل أثر تأثيراً بالغاً.. ويكفي أن المانشيتات التي كنت أكتبها كنت أختارها بقناعة شديدة بهذا الرجل.
خاصة وانني بطبعي يحتل الحماس عندي مكانة كبيرة ليصبح عنصراً جوهرياً جداً في عملي.

* هل ظلت قيادات الجمهورية كما هي أم حدثت تغييرات؟
** أول عامين استمر "محسن محمد" ثم جاء "محفوظ الأنصاري".

* هل كان الرئيس مبارك يهتم بما تكتبه الصحف؟
** بشكل كبير ويستوقفني هنا موقف الرئيس مبارك تجاه أحد التحقيقات الصحفية التي نشرتها الجمهورية.
ففي فترة ابتكر "محسن محمد" فكرة تحقيق الصفحة الأولي الذي يحتل مساحة الصفحة الأولي كلها.. وكان "علاء الوكيل" وهو صحفي من الطراز الأول ومسئول عن الحوادث وكلفه "محسن محمد" بعمل تحقيق عن "تربية الكلاب" وجاء فيه علي لسان بعض المربين للكلاب انهم يطعمونهم "بسبوسة" وأطعمة من هذا القبيل. وفي اليوم الثاني بعد نشر الموضوع فوجئت بقول "محسن محمد" انه قد طلبه ليخبره ان الرئيس مبارك يسأل عن هذا الموضوع.. فأخبره بوجهة نظره انه يريد عرض فئة من الناس لا تشعر بآلام الغير ورغم ان الموضوع بالفعل كان مستفزاً إلا انه يؤكد لمسات "محسن محمد" الصحفية ويؤكد أيضاً اهتمام الرئيس مبارك بما ينشر في الصحف ويمس الشعب.

ولكن لماذا هذا الرفض للإنتماء السياسي؟
هذا الرفض يتعلق بموقف مررت به ففي أثناء دراستي الثانوية كانت جماعة الاخوان المسلمين تقوم بعمل لقاءات في مدرسة بنها الثانوية ويلقون فيها الخطب التي كنت استمع إليها ثم بدأوا في عمل اشتراك شهري فكنت اسدده وكان الاخوان في هذا الوقت جزءا من الثورة ولكن بعد حدوث الانشقاق بعد محاولة اغتيال عبدالناصر في المنشية ومن هنا أعلنت الحرب علي الاخوان وتم حرق مقرهم في بنها وتم تصفية عناصر الاخوان.. المهم انه قد انتابني رعب شديد لأني مقيد بسجلاتهم طبقا للاشتراك الذي كنت أسدده وظل هذا الرعب بداخلي ولكن أحدا لم يسألني وقد أرجعت ذلك إلي احتمال حرق هذه السجلات مع حرق المقر ومنذ ذلك اليوم قررت عدم الانتماء إلي أي حزب من الأحزاب.
* موقف آخر تعرضت له وأنا أبلغ من العمر "26 عاما" كنت قد دعيت للانضمام  إلي منظمة الشباب وكان وقتها ينتمي إليها أسماء لامعة الآن ومنهم مفيد شهاب ـ علي الدين هلال ـ حسين كامل بهاء الدين ودعيت إلي اجتماع لها في سنترال العتبة في الساعة الثالثة ظهرا أي بعد انتهاء العمل وكان الاجتماع في الدور السابع أو الثامن وأثناء الاجتماع علمت ان مهمتي ستكون تقديم تقارير عن مجموعات العمل في الجرنال وكان أيامها معي محمد فودة. موسي شرف. عبدالكريم سليم وغيرهم وكلهم تجمعني بهم محبة فكيف اكتب فيهم تقارير.. كنت أعتبر نفسي جنديا من جنود الثورة وعلي أتم الاستعداد لعمل أي شيء لأجلها ولكن لأن انقلب علي من يحبونني وأتخلي عن قيمي فلا أرضي بذلك أبدا وأدركت انها لعبة السياسة فرفضتها تماما.
بعدها وبمضي عاما 71. 72 كانت مظاهرات طلبة الجامعة تحتل ميدان التحرير مطالبة بالحرب وكان السادات متصورا ان الحل في يد أمريكا وكان يسعي لأن تخرجه هي من هذا المأزق فقرار الحرب كان جاهزا مهد له عبدالناصر الذي قال ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ولكن السادات لم يتخذ قرار الحرب إلا بعد يأسه من الأمريكان.
وكان الروس والأمريكان اتفقا علي ما سمي التسكين العسكري بمعني ايقاف الضرب وبقاء الوضع كما هو عليه.
ولكن يحسب للسادات خطته الخداعية أن يتظاهر بالضعف في الوقت الذي كان يجهز فيه للحرب التي اضطر لها بضغط من الشعب المطالب بالحرب.
كان يتظاهر بأنه غير قادر علي الحرب وفي اللحظة المناسبة ضرب اسرائيل وخسرت هي الجولة الأولي واتذكر انني وقتها وقبل اعلان الحرب كتبت مانشيت "لا أمل في الحل السلمي" وقامت الدنيا وكان رئيس التحرير ابراهيم نوار ورئيس مجلس الإدارة مصطفي بهجت بدوي حيث يعد هذا المانشيت كشفا لخطة الحرب.. فهذه الكلمات تعني ان الحرب قائمة حتماً ، وفوجئت بتغيير المانشيت.ولم اعرف السبب إلا بعد قيام الحرب وبعد ان كشف السادات عن خطته في الخديعة.

ماذا عن حرب أكتوبر 1973 بذاكرتك؟
أتذكر وقتها اني كتبت مانشيت "قواتنا تحارب الآن في قلب سيناء" وكان رأي مصطفي بهجت أن يكون "عبرنا القنال" ولكني اعترضت وقلت اني كتبته من قبل فقد كانت قواتنا تذهب للضفة لجس النبض وتدمر موقعا وتعود حتي انهم في مرة قد رفعوا العلم علي الضفة الشرقية لمدة حوالي 12ساعة وكانت المدافع فيها مسلطة نحو اي اسرائيلي يقترب منه.

ماذا عن عملك في الجمهورية بعد 1973؟
بعد أن عدت من ليبيا وكنت قد علمت ان محسن محمد هو الذي تولي رئاسة تحرير الجمهورية وكان هدفه الأول القضاء علي كل ما يمت لعبدالناصر بصلة وكان هناك صراع بين المنتمين إلي عهود اقطاعية ومجموعات الاشتراكيين حيث كانت بذرة الفساد الصحفي التي زرعت في عهد السادات وبدأت فكرة غربلة الصحافة من كل فكر أي القضاء علي البذرة السياسية.
فالسادات مع أمريكا وفي مفاوضات مع اسرائيل ولديه قضية مقدسة ولا يريد تعريف الشعب بحقوقه وقرر الانفتاح ولا يريد من يقول له أين تكافؤ الفرص وحق الفقراء ومن هنا كان المجتمع الرأسمالي الذي نعيشه الآن كل ذلك ظهر بعد حرب 1973 التي لن ننكر انها انتصار عظيم ولكن لا أحد ينكر ايضا ان نتيجتها جاءت لتحقيق أهداف أخري فيمكننا تصور انه دخل الحرب مدفوعا لها لذا لم تأت النتائج المرجوة كما انه أحجم لأنه لا يريد الدخول في معارك لا تناسب قدراته كدولة.
ولكن المؤكد ان هذه المرحلة ظهر فيها "أنصار الثورة المضادة" فصعد الكثير لأعلي وهبط إلي اسفل كل من تمسك بالمباديء.
المهم انني كنت عائدا من ليبيا من سنوات حرمان من الوطن فلم اجد إلا ما يريد محسن محمد وساندته تماما وقررت تحويل ايماني بمباديء سياسية معينة إلي ايماني بالعمل الصحفي المجرد أي انني اخترت البعد عن السياسة.
وكانت سياسة الجمهورية وقتها النزول للناس والاقتراب من مشكلاتهم وعاشت الجمهورية صحافة الإثارة بعد أن كانت تعيش في عهد عبدالناصر صحافة الثقافة. وكان في هذه الفترة قد اعتمد علي الشباب حتي ينهي مرحلة الفكر الاشترااكي ولجأ إلي صحافة الخدمات ليبعد الناس عن السياسة للقضاء علي مراكز القوي والاشتراكيين والناصريين ليتحولوا من أهداف القومية والوطنية إلي ناس ذاتيين مستهلكين.
وكان قد اختار مجموعة من الشباب من المتفوقين في كلية الاعلام..وقد ساهمت في تدريب هؤلاء مع قناعتي بأنه كان من الأجدي ان يأتي بمجموعة من الصحفيين المبتكرين وليس مجموعة من أدوات التنفيذ لأفكار "محسن محمد" الذي كان يجتمع بهم في مجلس التحرير وكانت لديه أفكار مكتوبة يقوم بتوزيعها عليهم ويوجههم إلي من يتحدثون ويأخذون منه المعلومة ثم يكتبونها  ويعودون بها إلي الجريدة لذا لم تكن لديهم روح المبادرة التي كانت موجودة لدي أجيال سابقة كانوا في جو من الثقافة والفكر والحوار الشامل حول موضوعات متعددة تتضمن اقتراحاتنا بعضنا البعض لتطوير فكرة موضوع معين لقد كان الصحفي متكاملاً يفكر وينفذ وعلينا أنندرك انه عندما ينقص ويقول الفكر يهبط الأداء.
* الغريب في هذه المرحلة ان اسم عبدالناصر لم يكن يذكر في أي جرنال وإذا ذكر فيذكر بالسلب و قام محسن محمد بعزل عبدالعزيز عبدالله مدير التحريرفترة ثم أحاله للمعاش وكنت أنا تقريبا نائب مدير التحريرقبل سفرى وعندما عدت من ليبيا وجدت ان هناك مجموعة من نواب رئيس التحرير الجدد منهم سمير رجب ـ فاروق فهمي ـ علاء دوارة ـ محيي الدجوي ـ رأفت الخياط وكانوا جميعهم فى الاصل مندوبي أخبار وقبل سفري كانوا كلهم مجرد محررين ومن الطبيعي ألا أسمح بأن أعمل تحت رئاستهم حيث كنت أحد القيادات التي تصيغ الجمهورية وتعطيها شخصيتها.

هل تذكر أول لقاء مع محسن محمد؟
بعد عودتي من السفر ذهبت إلي مكتبه لأسلم عليه فأعطاني عدة موضوعات لمراجعتها  فأخذتها في أول يوم بعد عودتي من السفر وكانت عبارة عن أربعة تحقيقات صحفية.. وكنت وقتها غائبا عن مصر ثلاث سنوات وتغيب عني بلاشك حقائق كثيرة فقمت بمراجعة اثنين منها واعطيت جلال العريان وكان نائبا لرئيس التحرير اثنين لم أراجعهما.
وفي اليوم الثاني فوجئت بمحسن محمد يقول لي "انت عاوزني أقولك كلام بايخ؟ قلت له: وايه اللي يخليني اسمعه"؟ وفوجىء هو بهذا الرد.
كان يرافقه وقتها "محمد حموده" الذي كان ساعده الأيمن فسأله محسن محمد مين هو ناجي فمدحسني محمد الحيوان بعدها فوجئت به يستدعيني لمكتبه فطلبت من سمير رجب صديقي ان يأتي معي.. فسألني ماذا تريد.. قلت له أبسط شيء.
وكان وقتها رئيس مجلس الإدارة هو "عبد المنعم الصاوي" وكان صديقاً لعبد العزيز عبدالله وكان يعرفني جيداً.
وبعدها فوجئت بقرار رئيس مجلس الإدارة تعييني نائب رئيس تحرير ومازلت لا اعلم من صاحب الفضل عبد المنعم الصاوي أم محسن محمد أم عبد العزيز عبدالله.
لذلك لا ادين بالفضل لمحسن محمد فى هذا المنصب لانه كان تطوراً طبيعياً بعدما أصبح  المحررين رؤساء أقسام ورؤساء الأقسام اصبحوا نواباً لرئيس تحرير.
المهم بعدها حملني مهمة الإشراف علي قسم التحقيقات ايضاً وكان مجلس التحرير في عهد محسن محمد متميزاً فهو نفسه صحفي متفرغ وصحفي حتي النخاع.. كان مجلسه يمتلئ بالحيوية والأفكار المتجددة.. لذا كنت احضر المجلس ولدي علي الأقل فكرتان أو ثلاث وإلا اشعر بخجل شديد.
* واتذكر هنا موضوعاً من ضمن افكاره وكان رد فعل علي اشاعة وفاة الشيخ الشعراوي.. فأرسلنا محررا إلي الشيخ نفسه وسألناه عن شعوره بعد هذه الإشاعة وكان موضوعاً متميزاً.

ولكن لماذاتم اختيارك مدير تحرير للجمهورية؟
بعد فترة حدث صراع بين محسن محمد ومحمد الحيوان ولم يجد حوله غيري وراهن علي علي ان اكون الرجل الثاني.
لذا اصدر قرار تعييني مدير تحرير الجمهورية اليومي. ومحمد أبو الحديد مدير تحرير الأسبوعي.

* تم تعيينك مدير تحريرفي عهد "محسن محمد" الذي كان يحارب الناصريين.. وأنت ناصري ماذا فعلت للناصريين؟
** لم أكن وقتها لأستطيع عمل الكثير لأجلهم ولكن كل ما استطعت عمله لهم أنه بعدما كانوا مجمدين تماماً حاولت اقناع "محسن محمد" ان يفرج عنهم من هذا التجميد من خلال إقناعه أنهم ماداموا يعملون بالجريدة ويتقاضون مرتبات فلابد ان يعملوا وان يكون لهم دور حتي يستفيد منهم الجرنال.. وبالفعل اقتنع بهذه الفكرة فبدأ يسمح لهم بالتواجد الفعلي لأقلامهم مادامت كتاباتهم تحت سيطرتنا حتي أنني أحياناً عندما كان أحدهم يكتب مقالاً يتماشي ورؤيتي وقناعاتي كنت أتعرض لجمل معينة فيه بالحذف حتي أحدث نوعاً من المواءمة.

* من الذي كان يفرض عليك هذه المواءمة؟
** كانت تفرضها إدارتي للجريدة.. أي المسئولية التي قبلتها ولابد ان ألتزم بها.. اذا كان عليّ وقتها الخيار بين الالتزام بقواعد المسئولية أو تركها تماماً وأتصور ان الخيار الثاني كان صعباً.

* هل ندمت أنك قبلتها؟
** لا.. لسبب ان كل الأحداث التي تلت ذلك لا تشعرني بندم.. فلا الأحزاب التي كانت موجودة والتي كانت منابر وأصبحت أحزاباً لم يكن فيها من بوادر قيادية ولم أقتنع بأي قيادة فقائد الحزب لابد ان يكون قيادة شعبية حقيقة لم أكن أطلب عبدالناصر جديد ولكني كنت أتمني قائدا لديه القدرة علي رسم السياسة ولعل القول الآن أو التساؤل أين ما تقدمه الأحزاب المعارضة- هو تساؤل في مكانه فهذه الأحزاب قياداتها ليست شعبية انما هي مجرد أحزاب صنعها "السادات".
لذا لم أندم أبداً خاصة وانني مقتنع من الناحية المهنية.

لماذا احجمت عن الكتابة الذاتية؟
بعد عودتى من ليبيا كنت قد كتبت يوماً أحد المقالات عن التغيير الوزاري وانتقدت فيه النفاق والمنافقين وبالتالي لم ينشر المقال.. وكان "محسن" قد قابلني صدفه عند الاسانسير وقال لي:"قريت مقالك بس سيبك من المقالات" وكان هذا هو أحد المواقف التي لا انساها له.
وفكرت فى اننى اذا اردت الكتابة اما ان "اعوم مع الموجه" وهو شىء مرفوض بالنسبة لى واما ان اكون محايد واخترت ان "اضع قلمى فى جيبى" وربما كان ذلك سبب توجهى الى الكتابة العاطفيه
* موقف آخر لا انساه هو انني حصلت علي فرصة عمل في دولة الإمارات بمبلغ "14" ألف درهم وكان وقتها مبلغاً ضخماً جداً وطلبت السفر ولكنه رفض.. حتي ان "مصطفى شردى" الذي كان رئيس المجموعة المصرية هناك قابله وطلب منه السماح لي بالسفر ولكنه رفض بل هدد في حالة اصراري علي السفر ان يعيد كل المصريين الموجودين هناك.
وما كان مني إلا ان اضربت كنوع من الرفض لهذا الموقف وكان اضرابي هذا يتمثل في ان اظل في الجرنال حتي صدور الطبعة الأولي فقط واترك الثانية لغيري.
وفوجئت به يحولني للمستشار القانوني الذي نصحني بانهاء الموضوع ودياً قائلاً لي:"هحقق في ايه؟"
 وتحسنت العلاقة عندما ترددت اشاعة عن رحيل محسن محمد وقيل انه يلملم اوراقه.. سيطر علي شعور بضرورة مساندته.. فذهبت إليه ورحب بي وعملت معه بكل اخلاص وانتهت الاشاعة واستمر في العمل فشعر باخلاصي.. فقرر منحي علاوة "96" جنيهاً سئل عنها من فؤاد محيي الدين الذي كان رئيساً للوزراء وسأله:"انت اديت واحد عندك "100" جنه لان في ذلك الوقت كانت اقصي علاوة في الدولة "6" جنيهات.

هل تذكر آخر لقاء معه؟
آخر لقاء معه كرئيس تحرير كان حول توزيع الجمهورية الذي كان في هذا الوقت "450" ألف نسخة وكنت اقول له يمكننا الوصول إلي نصف مليون نسخة علي آخر السنة.. سافر هو بعدها إلي الحج وسافرت انا إلي الإسكندرية التي كان توزيعها "35" ألف نسخة فقط.. وذهبت لأعرف سبب فشل التوزيع فيها وظللت ساهراً طوال الليل مع فريق العمل لخطة عمل شهرية.
وبعدها كان اغتيال السادات وتولي الرئيس مبارك السلطة واصدر فيما بعد قراراً بابعاد محسن محمد وتولي محفوظ الأنصاري رئاسة تحرير الجمهورية.

ما هي ذكرياتك حول حرب 1967؟
هذا الموقف ليس ذكري بقدر ما هو شهادة للتاريخ
قبل قيام الحرب بيومين جاءني "محفوظ الأنصاري" الذي كان مندوب وزارة الخارجية وكنت أنا مسئولاً عن الديسك.. وكان القلق يبدو علي وجهه فسألته:"فيه إيه؟" قال: لقد اجتمع جمال عبد الناصر بقيادات رفيعة المستوي واخبرهم ان الحرب في خلال 48 ساعة ولابد من الاستعداد لها.. وكان هذا الاجتماع علي مستوي عال من السرية.
هنا عرفت ما سوف يحدث من "محفوظ" الذي لابد انه علم بهذا الخبر من وزير الخارجية أي ان الخبر مؤكد.. ولكنه سري إذاً لن اتمكن من الكتابة.. و قررت ان اكتب مانشيت "الحرب علي الأبواب".
ودارت الأيام وحدث الصراع الرهيب عن المسئول عن النكسة هل هو جمال عبد الناصر أم المشير عبد الحكيم عامر واتصور ان هذه الشهادة تحسم الصراع فقد اخبرهم عبد الناصر ان الحرب خلال 48 ساعة وكان عليهم الاستعداد لذلك.
* اتذكر ايضاً ان دول الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية قد ساندتنا مساندة كبيرة بعد النكسة وكانت ترسل مساعدات كثيرة للشعب الذي كان يعاني قبل 67 من أزمات عديدة في السكر والأرز والقمح وبفضل هذه المساعدات لم يشك أحد من الجوع.
هذه الدول هي التي بكل اسف انقلب عليها السادات وأثار حولهم زوبعة بعد 1973 واتهمهم بالخيانة لنا وانكر كل مساعداتهم لمصر.

ما سبب كره العرب لمصر من وجهة نظرك؟
إذا كان يمكنني تخفيف كلمة كره هذه فدعيني أقول ان الدول العربية تنظر لمصر نظرة عاتبه إلي حد كبير.. فقد وجدوا الإعلام المصري يهاجم جمال عبد الناصر الذي يعرفونه جيداً ويقدرون انجازاته.. فعندما ينسي شعب عبد الناصر كل هذا فلابد  ان يكون شعباً غادراً وحجوداً.
كما ان بعد اتفاقية "كامب ديفيد" التي وقعها السادات مع "بيجن" رئيس وزراء إسرائيل وقتها.. كل الدول العربية تقريباً كانت قد قاطعت مصر فكيف لمصر رائدة القومية العربية في عهد عبد الناصر ان تضع يدها في يد إسرائيل؟.. كما ان السادات وقتها قد اتهم دول الخليج بأنها لم تساند مصر ولم ترسل إليها أية مساعدات رغم انهم أكدوا العكس.. ولم يكتف السادات بهذا الاتهام بل انه سبهم بـ "رعاة الإبل" وقتها كانت الصحافة المصرية قد شنت حملاتها ضد العرب لمهاجمتهم وسبهم.. وهنا يحسب لـ "محسن محمد" شجاعته انه لم يدخل هذه المعارك ونأي بالجمهورية عنها.بل انه استمر في إصدار الصفحة العربية التي كانت تصدر في الجمهورية تحمل أخبار الدول العربية السياسية والاجتماعية وغيرها.

ما هي قصة لقاء المستشار الثقافي الأمريكي بقيادات الجمهورية؟
 تم توجيه الدعوة إلي مجموعة من قيادات الجمهورية وقتها ومنهم أنا وسمير رجب وحسن عامر وغيرهم وذهبنا إلي مكتب محسن محمد ووجدنا ضيفا عنده فوجئنا بأنه المستشار الثقافي الأمريكي.. وتساءلت عن سبب هذا الاجتماع الغريب.. فقد كان من المفترض ان يجتمع رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير فقط ووقتها يكون الأمر عادياً.. أما ان يجتمع بقيادات الجمهورية فقد أثار هذا بداخلي تساؤلات عديدة.
ولكن بعدها بفترة ادركت ان النفوذ الأمريكي قد دخل إلي الصحافة المصرية بعد ان خرج مصطفي أمين من السجن فسافر حسن عامر إلي أمريكا وتم ترقية سمير رجب.
وتذكرت وقتها فترة الستينات عندما جاء "خورتشوف" لزيارة السد العالي وكتبت الجمهورية سطرا يعلو المانشيت وكان ترحيبا به ولكن باللغة الروسية وقيل وقتها ان مجيئه كان مشروطاً بخروج الشيوعيين من المعتقل وبالفعل تم الافراج عنهم جميعاً وكان للجمهورية نصيب منهم  فعاد اليها فتحي عبدالفتاح. عدلي برسوم. جلال السيد واميمه ابو النصر وغيرهم.
وبدأ النفوذ الشيوعي يظهر في اواخرالستينات وجاء موقف المستشار الثقافي الأمريكي ليعلن التحول إلي النفوذ الأمريكي وبالفعل بدأنا نتحول إلي الصحافة المثيرة التي تهدف إلي تغييب الناس عن السياسة.
* ولكننا هنا ومع صحافة الاثارة هذه استطعنا الحفاظ علي تواصلنا مع الناس ولأول مرة ابتكرنا فكرة التحقيق في موضوع محلي ينشر بالصفحة الأولي.

وأنت ناصري حتي النخاع.. كيف رأيت اغتيال السادات؟
 اعترف انني لم أكن من المنتمين إلي السادات بحكم تخلية عن مباديء ثورة يوليو رغم أنه في أول خطبة له في مجلس الشعب انحني أمام تمثال عبدالناصر وقال ما يعني انه سائر علي نهج عبدالناصر.
وبعدها تبين العكس حتي ان احدي النكات كانت "أنا ماشي علي طريق عبدالناصر بس بالأستيكه".
رغم ذلك إلا انني حزنت علي اغتياله لأن الموت بشكل مأساوي لابد وانه يؤلم أي انسان.
ودعيني أروي لك القصة:
في بروفة العرض العسكري للسادس من أكتوبر كنا قد أرسلنا المصور "إبراهيم عمر" لتصوير البروفة وجهزت كل شيء وطبعنا الصور بعد ظهور المانشيت "القائد والجيش في عيد النصر" وأنا جالس أمام التليفزيون أشاهد العرض كنت أفكر في مانشيت اليوم التالي ولا شيء في ذهني لكتابته وكنت قد استهلكت المانشيت في اليوم السابق للعرض وأثناء تفكيري هذا حدث الاغتيال وتأثرت جداً لأنه مات بشكل مأساوي كما انتابني الخوف والقلق من القادم.
وللأسف كنت بمفردي وقتها حيث كان محسن محمد في السعودية لأداء فريضة الحج.
وجلست انتظر تليفونا منه ولم يحدث.. فتابعت أخبار الخارجية الأمريكية التي أكدت اصابته فقط.. واتصل بي وقتها جمال كمال رحمة الله عليه وكان مندوبنا العسكري وأخبرني ان حرس السادات "يلطم" وتم نقله إلي مستشفي المعادي ورغم ذلك لم أكن استطيع كتابة شيء إلا بعد صدور بيان رسمي.. وهذه رسالة لكل صحفي عليه ضبط النفس والانفعالات دائما.
ــ في اليوم الثاني بعد الاغتيال وجدت جريدة الأخبار وقد نشرت كل شيء عمن هو "حسني مبارك" وبالطبع لأن هذا هو الرئيس القادم فقررت عمل صفحة عنه و عن قرينته التي كان لها في هذا الوقت نشاط اجتماعي كبير.. وكانت وقتها زميلتنا "نجوان محرم" مرافقة لها في كافة الأنشطة وكانت دائماً تشيد بها.
طلبت من "نجوان" كتابة موضوع عن "سوزان مبارك" وطلبت من "فتحي عبدالمقصود" رحمه الله جمع بعض المعلومات عنها من الارشيف.. قرأت موضوع "نجوان" ولم أجد من الوقت ما يكفي لقراءة ما جمعه "فتحي" ودمجه مع موضوع "نجوان" وعمل موضوع واحد. وكان وقتها "حسن عامر" هو نائب رئيس التحرير فأعطيته الموضوعين لدمجهما وللأسف يبدو ان بعض المعلومات التي نشرت لم يكن من الحكمة نشرها وصدر قرار بعدها بعدم نشر أي شيء يتعلق بقرينة الرئيس لمدة ستة أشهر ورغم ان ما حدث خطأ ليس لي يد فيه الا اننى مسئول عنه.

هل تذكر أخطاء أخري حسبت عليك؟
 كان "محسن محمد" يحرص علي نشر "نكتة" مترجمة في الصفحة الأولي وفي يوم كانت النكتة عبارة عن "امرأة ذهبت للقاضي تشكو زوجها.. فقال القاضي: مرة واحدة لا تكفي" وكان في هذا التوقيت يوجد خصم لمحسن محمد في الجمهورية هو عادل سليمان فأخذ هذه النكتة مع بعض الموضوعات الأخري التي تنتمي لمدرسة الاثارة ورفع قضية ضد محسن محمد بصفته رئيس التحرير وأحسن اختيار القاضي حيث كان ينتمي للتيار الديني.. فما كان من هذا القاضي الا ان أصدر حكما علي "محسن" بالحبس ستة أشهر.
* خطأ آخر حسبه "محسن محمد" ضدي وهو أن زميلنا "قدري عزب" كان يحرر صفحة بعنوان "حكمت المحكمة" وذات مرة لم تنشر بالصفحة سوي صورة "أمين سر" يومها دخل وسب كل الموجودين بما يعني "مفيش حد بيفهم" بعدها كتبت ورقة احتجاج علي هذه الطريقة ورد عليها ومر الموقف.
* خطأ آخر بسيط.. كان موسي صبري في فترة من الفترات مسئولاً عن اعطاء الصفحة الأولي لونها وشخصيتها وكنت أنا في بداياتي.. وكان "موسي" يخصص العمود الأول للأخبار المحلية.
وكنت أنا وقتها مسئولا عن الطبعة الثانيه وجاءني خبر سياسي هام جداً فما كان مني إلا ان وضعته علي رأس العمود المحلى.

ولكن ما هي اخطاؤك في حق نفسك من وجهة نظرك؟
خطأي الأكبر هو توقفي عن الكتابة  خاصة بعد ان تولي "سمير رجب" رئاسة التحرير.
فقد شعرت ان قيادة الجرنال لن تحترم ما اكتب وبالتالي يمكن التلاعب فيه او اختصاره او حتي عدم نشره وهذا ما لا اقبله.
وكنت شبه متأكد من حدوث مثل ذلك نظراً لمواقفي المعروفة والتي كانت محفوظ الأنصاري يدركها ويتحمل مسئولية النشر عنها.

سنوات عديدة تكتب افتتاحية الجمهورية لماذا لا ينشر اسمك عليها؟
عدم نشر الاسم امر ثابت منذ أول افتتاحية تم كتابتها فهي تعني ان الجمهورية هي التي تقول.. وبغض النظر عن هذا المبرر الذي يبدو انه كان محبباً لبعض القيادات دعيني اذكر لك موقفا:
ذات يوم كتبت افتتاحية الجمهورية وكانت ضد إسرائيل وتحديداً كانت دفاعا عن عملية فدائية فلسطينية قرأها السفير الإسرائيلي وأرسل رداً بما يعني كيف تنشر الجريدة مثل هذا في ظل وجود اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل لذا لابد وان تكون هذه الجريدة تدافع عن الإرهاب.
وكتبت رداً آخر عليه.. قرأه سمير رجب وتوقعت ان يضع عليه اسمي و لكن ذلك لم يحدث.

هل لديك ذكريات خاصة بمانشيتات؟
اذكر انه في فترة اعتقالات سبتمبر كان "محسن محمد" كتب مانشيتا "ثورة 5 سبتمبر" وارسله لي ليأخذ رأيي واستدركت ان السادات يحب كلمة ثورة حتي يمحو الثورة الأم حتي ان احداث 15 مايو كان قد اطلق عليها ثورة "15" مايو. ووافقته علي المانشيت مؤكداً له ان موافقتي بسبب علمي ان السادات يحب كلمة ثورة.
* مرة أخري كتبت مانشيت "رسالة من الزنزانة رقم " وكانت عن رسالة من الضفة الغربية؟ وكان موسي صبري قد اعجب جداً بهذا المانشيت.
* مانشيت آخر يعتبر من النوادر:
أيام عبد الناصر حدث انقلاب السخيرات في المغرب واعلن عن مصرع الملك الحسن الثاني واعلان الجمهورية وجاء الخبر علي الوكالات علي لسان قادة الإنقلاب.
وما كان مني إلا ان اخذت سطرا فوق المانشيت "مصرع الملك الحسن وإعلان الجمهورية في المغرب" وكان ذلك قبل الطباعة بربع ساعة تقريباً.
بعدها جاءت الأخبار ان الملك كان قد تم اختطافه من قبل أحد الضباط لقتله ولكن الضابط انهار أمام هيبة الملك واطلق سراحه وقضي الملك علي الانقلاب.واصبح هذا المانشيت لا يمت للواقع الجديد بصلة.
* مانشيت آخر كتبته "6 رصاصات في صدر ريجان" وكان له قصة ففي أيام محسن محمد كنت مسئولا عن الدسك وكان "أحمد البرديسي" في قسم الترجمة وفي الساعة الحادية عشرة اخبرني انه سيغادر الجرنال قلت له مداعباً "تنزل ايه مش جايز الرئيس الأمريكي يتقتل ولا حاجة" قال لي "يا سلام" وضحكنا.. قلت له "فيه حد تاني موجود؟.. قال لي "أحمد العزبي" وذهبت انا ايضاً إلي المنزل وبمجرد وصولي علمت بمحاولة اغتيال "ريجان" وعدت إلي الجرنال علي الفور لأتابع الحدث واضع المانشيتات وفي ذلك اليوم كان علاء دواره هو نائب رئيس التحرير وكان زميلنا في الدسك "حمدي المرصفاوي" وقلت له "تعرف دكتور يقولنا لما الرصاصه تصيب الرئه ايه اللي يحصل" وبالفعل قام المرصفاوي بالمهمة ونشرنا تقريراً طبياً حول ما يمكن ان يحدث وكان موضوعا متميزا اشاد به مصطفى أمين فقدم له محسن محمد زميلنا علاء دوارة على انه صانعه ولم يعرف الحقيقة الا متأخراً.

ما هي صفات المانشيت الجيد؟
- مختصر
- مباشر
- مثير
- يشير إلي شيء جديد لا يعرفه القارئ

* بعد كل سنوات الخبرة هذه.. ألم تفكر في إصدار صحيفة مستقلة؟
** لا شك أن التفكير في مثل هذا الأمر شيء جيد وإذا تحقق فسيكون رائع بالنسبة لي.. ولكن تنفيذ مثل هذا الأمر يحتاج أموالاً كثيرة.

* هل معني ذلك أنه ليس لديك مانع في العمل في صحف مستقلة؟
** بالعكس.. أنا أرفض تماماً فكرة العمل في صحيفة خاصة.
والدليل علي ذلك أن كثير من الزملاء كانوا يعرضون علي ذلك بشكل أو بأخر و لكني كنت أرفض فأنا مرتبط ارتباطاً شديداً بالجمهورية وفي الوقت ذاته لا أبخل عليهم بأي نصائح أو توجيهات تسهم في انجاحهم بحكم أني "أخ أكبر"

* من هم الذين أهلتهم لإن يصبحوا صفاً ثانياً بعدك؟
** الحمد لله كثيرين.. ولكني لست مع القول بأن فلان علم فلان ولكني اعتقد ان الصحيح هو فلان تعلم من فلان فأنا مثلاً لم يعلمني أحد كيف أكتب موضوع ولكني كنت أراقب وأتابع واسمع.. فالمهم ان تكون قدوة للآخرين يتعلمون منك.
والمهتم الذي يريد ان يتعلم فعلاً سوف يتابع موضوعه قبل تعديله ونفس الموضوع بعد نشره معدلاً.. فهكذا يتعلم الصحفي.
ولكني اعترف بانني كنت أقرب مني الناجحين بهدف تطوير الجرنال.. وهنا التساؤل: هل أضيع وقتي مع الفاشين أم استثمر وجود الناجحين وأقوم بتشجيعهم لمزيد من العطاء والعمل الجدي.
أؤكد ان المهم في القائد ان يكون قدوة للأجيال الجديدة.. هذا هو التعليم الحقيقي.

* من هو ابنك صحفياً؟
** كثيرون.. ودون ذكر اسماء أؤكد انهم كبروا ولمع العديد منهم حتي وصلوا إلي رؤساء تحرير.

* ما رأيك في فكرة تكريم الرواد؟
** في رأيي ان التكريم في مجال الصحافة يعني القضاء علي الصحفي فالتكريم الحقيقي له يكون بالابقاء عليه في المجال الصحفي وليس بإبعاده عنه.. فالصحفي يفقد وجوده عندما يلغي عقله فقط.

* أقصد التكريم أثناء ممارسة العمل؟
** ما يحدث غالباً أن التكريم يكون في نهاية الشوط أما إذا حدث أثناء العمل.. فلابد وأنه شيء جيد.

* هل تم تكريمك من نقابة الصحفيين؟
** بالفعل تم ذلك و سعدت ولازلت أسعد به جداً لأنه من أكبر جهة في المجال الصحفي.

* كلامك يعني أنك لا تعترف بالمعاش في الصحافة أليس كذلك؟
** بالفعل.. فأنا أري أن المعاش في الصحافة "خرافة" إلا إذا كان في النواحي الإدارية فقط فالصحفي "فنان" فكيف يحال "الفنان" إلي المعاش؟
أنا أذكر منذ سنوات عندما قررا المسرح القومي إحالة الفنانة "أمينة رزق" للمعاش اعترض الجميع وحدثت ضجة كبيرة حتي توصلوا إلي مسمي "فنان قدير" فهل يحيل الصحفي للمعاش ونطلق عليه "الصحفي القدير"؟؟

* هل كان لك أعداء؟
** لم يكن بيني وبين أي إنسان عداوة أبداً.. فمن طبعي أن ابتعد دوماً عن أي مكان به صراع.. فقد نشأت علي أخلاق معينة تمنعني من الدخول في أي صراع حتي إذا وصل الأمر إلي حتمية الصراع لأخذ حق لي فإنني أفضل ألا أحصل عليه.
ورغم علمي بأن البعض قد يري ان هذا "ضعف" إلا انني مؤمن بما أفعله في ظل الأخلاق التي نشأت عليها.
- وإذا كان لي أعداء فأتصور أنهم في إطار العمل فقط ولم أكن لأسعي إلي ذلك أبداً.. ولكن ربما خلقهم منصبي ونجاحي في عملي فغالباً الأعداء يخلقهم النجاح أمام الإنسان الكامل فلا يكون له أعداء.
- ورغم ذلك أؤكد انه حتي إذا و جد عداء رغماً عني فأنا أؤكد انه بعد زوال أسباب هذا العداء الذي لم اصنعه أنا أكون أنا المبادر بإقامة جسور طبيعية مع هؤلاء المعادين لي حتي لا أشعر يوماً انني قد اسأت لأحد.

* ألم يساعدك منصب في الرد علي أعداءك؟
** إطلاقاً.. لم استغل منصب يوماً ضد أي عدو لي.. وأتذكر انه في فترة من الفترات ذهب البعض إلي النقابة يشكونني ولم اسمح لنفسي إطلاقاً بالتدخل فيما يقدمونه من مقالات بالحذف رغم ان سلطة التغيير والحذف كانت في يدي ولكني مؤمن بأن "العمل عمل"

* من هو أفضل وأسوأ نائب رئيس تحرير كنت تتعامل معه في الديسك؟
** جميعهم كانوا إخوة لي.. وكنا جميعاً نتعامل كأسرة واحدة

* ألم يكن أحدهم متميزاً؟
** التميز كان في درجة "تقبل التغيير" عندما اقترح أو أطلب ذلك.
رغم انني كنت أعمل إلي أسلوب لا يشعر الآخر بأنني "امره" فمثلاً كنت أقول "ما رأيك في أن تغير العنوان إلي كذا؟
ولك ان تتخيلي كيف كانت كلمة "ما رأيك" هذه تفتح كل الأبواب المغلقة بيننا.
ولم يحدث يوماً خلافاً بيني وبين أحد إلا فيما ندر وذلك خلال الفترة التي اسميها "الحرب الأهلية" داخل الجرنال.

* ما هو أصعب موقف شخصي واجهته مع رئيس التحرير؟
** بداية أفضل ان اسميه "موقف إنساني" وكان مع الأستاذ إبراهيم نوار رحمة الله عليه.. والذي كان يثق في ويعتمد علي وكان يوم به خطاب للرئيس أنور السادات.. وذهبت إلي الجرنال متباطئاً ومتكاسلاً وكان ذلك نادراً ما يحدث.. ودخلت إلي مكتبه وكان جالساً يكتب ورغم انني كنت أعلم انه غاضباً مني جداً إلا انني فوجئت بأن كل ما فعله انه نظر إلي نظرة عتاب وخرجت من مكتبه وأنا أشعر أني ارتكبت جريمة ولم اسمع لنفسي منذ ذلك اليوم ان اجعل العمل محل لأي شيء.. فمهما كنت احب أو اذكره فلا يجب ان يؤثر ذلك علي العمل ورغام ان هذا الموقف قد مر عليه "40" عاماً إلا انني لم أنساه ولن انسي نظرة العتاب هذه.

* هل تذكر موقف شعرت فيه بحب الأخرين لك؟
*. مواقف كثيرة ولكني أذكر موقف ظهر فيه هذا الحب بشكل واضح عندما كانت الجمعية العمومية قد اتخذت قرار بإيقافي عن العمل وقام بالتوقيع عليه جميع الأعضاء ممن كان ينكل بهم "محمد محمد" ثم كان الموقف المضاد حيث قام "111" من الصحفيين بالتوقيع علي "عريضة" برفض هذا القرار رغم اني كنت في هذه الفترة "منبوذ" تماماً من الجرنال؟ كل مهمتي فيه اني مدير تحرير أقوم بعملي فقط ولم اكن املك وقتها لأحد من هؤلاء منحه مكافأة أو علاوة أو حتي حماية أو أي شيء ولم يكن هذا الموقف ليعبر عن أي شيء سوي حب الآخرين لي.

* عايشت ارتفاع نسب توزيع الجمهورية وهبوطها.. كيف تري هذا التغير؟
** لنعلم بداية انه لا إنتاج دون حلم وكفاح ونضال من أجل تحقيقه.
ولم يكن وصول الجمهورية في منتصف الثمانينيات إلي "900" ألف نسخة من فراغ وانما كان وراءه جهد وإيمان بالهدف وإيمان بدور الصحافة في توطيد هذه المبادئ لدي المواطنين واقناع الحاكم بأن هذا رأي الشعب.
ايضاً كان هبوط التوزيع نتيجة ردود الفعل لم تكن مواكبة للجهد المبذول.
فالسلطة التي كانت تستجيب بدأت تتراضي وتبتعد عن الاستجابة لمطالب الشعب التي كنا نعبر عنها وبالتالي حدث انفصال بين الصحافة وبين الحكم وبالتالي لم تعد تؤدي دورها كجسر بين الشعب والحكومة لان الحكومة رفضت هذا الدور واصبحت تريد صحافة تعبر عما تريد الحكومة التعبير عنه.. وقد استجابت الصحف لذلك فإبتعد عنها الشعب.
وطالما ان رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير يتم تعيينهم من مجلس الشوري.. أي ان النظام هو الذي يشكل إدارة صحفهم القومية.. فقد رضخت هذه الصحف ونتيجة هذا الرضوخ كان الابتعاد عن الرأي العام وعن الشعب الذي رأي انها لم تعد تؤدي دورها الذي ينتظره الشعب فابتعد هو ايضاً عنها.
وزادت مظاهر هذا الاعراض بعد صدور الصحف الخاصة فبعد ان كانت الصحف القومية محتكرة لسوق الصحف ولم يكن للقارئ الذي يريد القراءة خيارات سوي الصحف القومية التي يتخير منها ما يعبر عن رأيه وبعد ان ظهرت الصحف الخاصة اصبحت منبوذه واصبح دورها "الجسر" منتهي لان القارئ وجد جسر آخر هو الصحف المستقلة والحزبية.
وهذا يشير أولاً إلي يأسه من الحكومة وبالتالي لم يعد حتي يريد توصيل صوته إليها بل وضع همه في النقد والهجوم الذي قد يجبره في الصحف المستقلة.

* كيف تستعيد الصحف القومية بناء الجسر؟
** لابد أولاً من نظام قوي.. فكلما ضعف النظام يزداد تشبث الصحف القومية بالدفاع عنه. ولكن إذا كان النظام قوي "يري في سياسته عيباً فيصلحه" وقتها لن يوجد دافع يدفع هذه الصحف للبعد عن الرأي العام من أجل الدفاع عن النظام.
ومن الملحوظ انه في السنوات الأخيرة اصبحت الحكومة ضعيفه بحيث لا تتراجع عن الخطأ.. في الوقت نفسه هذه الحكومة لها دور في تحديد سياسات الصحف القومية وبالتالي لا تظهر المعارضة لها سوي من الصحف المستقلة وهنا التساؤل: هل سترضخ الحكومة لمطالب الصحف المعارضة؟.. بالطبع الإجابة هي النفي وبالتالي يتم تمرير أي قوانين قد تكون ضد الشعب.
* لكني كما اشرت من قبل مرت الجمهورية بمراحل عديدة مختلفة.. فأذكر علي سبيل المثال ان الجمهورية في الثمانينيات قامت بحملة صحفية ضد قانون الإيجارات القديمة الذي طرحته الحكومة.. وبالفعل استجابت الحكومة.
ايضاً عندما طرح مفهوم الخصخصة وكتبت مقالات عديدة لمعارضته حتي انني في إحدي المقالات كتبت عن وزارة قطاع الأعمال "وزارة بيع القطاع العام" لإنني كنت أري ان هذا هو دورها وكان رئيس الحكومة في هذا التوقيت هو الدكتور عاطف صدقي.. فعلق علي المقال بالاستحسان مطالباً بالكتابة في هذا النطاق لتجنب ضغوط البنك الدولي وأطراف أخري لبيع القطاع العام.
كان هذا هو رد فعل رئيس وزراء حكومة قوية ووطنية وكان مؤمناً بأن القطاع العام هو أحد الدعائم التي تقوم عليها مصر وقدرتها علي تخفيف معاناة محدودي الدخل.
ولكنها في مراحل أخري ظهر التخلي عن هذا الدور إلي حد الدفاع عن الحكومة التي لا تريد ان تسمع إلا ما يطالب منها من البنك الدولي أو غيره.
* وفي عودة إلي كيفية إعادة بناء الجسر اري ان الصحف القومية إذا قامت بالدور الصحيح ووقف في كل موقف بدور المرشد والموجه للحكومة لتكون قراراتها وقوانينها في مكانها الصحيح في صالح الشعب.

* من وجهة نظرك هل يتم تحديد فترة معينة يظل فيها المحرر "تحت التمرين" ثم يتوجب تعيينه بعدها؟
** إذا كان لابد من تحديد مدة فأتصور انها لا يجب ان تزيد عن ستة أشهر وان كنت اري ان الصحف كالكتاب "ببيان من عنوانه". فمن السهل ان تحكم عليه منذ أول لقاء هل يصلح أم لا؟! أما ما يحدث الآن فأنا اعتبره محاولة لحل أزمة البطالة علي حسابق الصحف وما يحدث مع البعض إنما تكونم نتائجه سلبية علي الصحف.

* هل من المقنع ان يظل المحرر تحت التمرين لسنوات قد تتعدي الـ 10 سنوات؟
** بالطبع لا.. فالصحف كما قلت يسهل الحكم عليه منذ البدايات فإما صحفي أو لا.

* هل يمكننا القول أن الصحافة اصبحت مهنة من لا مهنة له؟
** فعلاً.. لإنها اصبحت حل لمشكلة البطالة.. وهذه جريمة ضد الصحافة.

* ظهرت الكثير من الأصوات التي تطالب بأن يمارس الصحافة خريجي الإعلام فقط.. فما رأيك؟
** بالطبع لا اتفق مع هذه الأصوات.. ففي تصوري ان الصحفي لا يشترط حتي أن يكون من خريجي الجامعات.. فالعقاد لم يحصل علي شهادات سوي الابتدائية ولكني علي يقين ان الصحفي لابد وان تشترط فيه الموهبة التي يتم تطويرها وتنميتها فيما بعد بالقراءة.

* ما رأيك في قيد بعض المحررين بصحف غير رسمية في جداول نقابة الصحفيين؟
** بداية أنوه إلي ان بعض هذه الصحف اصبحت باب خلفي لعمليات ابتزاز نسمع كثيراً عنها.. فبعضها يسمح للمحررين بالعمل فيها مقابل مبالغ مادية بدعوي انها ستلحقهم بالنقابة.. والكثير من الشباب يستجيبون بحثاً عن وظيفة مضمونة.
أما من ناحية الصحيفة نفسها ففي تصوري انه لكي تكون رسمية ويعترف بها فلابد ان يمر علي وجودها خمس سنوات من الوجود الفعلي.

* هل تعتقد ان الصحافة لها خطوط حمراء؟ وإئا كنت ستجيب بـ "نعم" فمن من حقه وضع هذه الخطوط؟
** أتصور ان الصحافة "كلها" خطوط حمراء  وان لم تضع الدولة فسوف يضعها رئيس التحرير.
* متي تحصل الصحافة علي حريتها؟
** الصحافة لن تجد حريتها إلا عندما يتملكها الصحفيين من خلال جمعية عمومية.

* الصحافة القومية متهمة دائماً بأنها صحافة السلطة.. كيف يمكن لقياداتها تغيير هذه النظرة؟
** أتصور انه في ظل ما يحدث حالياً فإن ذلك أمر صعب جداً ولنعد سنوات للوراء عندما تمكنت الجمهورية تلك الصحيفة القومية ان يرتفع توزيعها إلي أكثر من نصف مليون نسخة لم يكن لأحد القوة التي تتحدي السلطة والنظام بعمل صحافة تجذب المواطن علي حساب الحكومة.. ولكن كانت الموهبة مع الكفاءة هي التي حققت للطرفين هدفهم "سواء الحكومة أو  الشعب". فالشعب يريد حل مشاكله.. والحكومة تريد تصديق الشعب لها انها تحل مشاكله وما كان يحدث هو توصيل الرسالتين.. فمثلاً كان ينشر "سوق روض الفرج ملئ بالأوبئة والأمراض" وكنت أنشر ايضاً ان "وزير الاسكان يقول سأغلقه" هنا أؤكد ان الصحف قد تكون جسر ما بين الحكومة والشعب إذا: توفر لديها قدرة الصحفي علي تطويع قلمه بحيث لا "يجرح في النظام ولا يجرح في الشعب"
* لابد ايضاً ألا يكون للصحفي القائم علي الصحيفة أي أهداف خاصة فالقارئ ذكي والحكومة أذكي. فإذا شعرت ان الصحيفة "تضحك عليها" لإرضاء القراء فإن نتيجة ذلك ستكون ضد الصحيفة.

* هل تري ان مركز التدريب الصحفي للجمهورية سيكون له دور فعال في تخريج صحفيين اكفاء؟
** لابد أولاً من توضيح ان دور المركز الآن هو مجرد تدريب عملي للطلبة الذين نفتح لهم الأبواب وتتمني ان يحقق لهم إضافة في المجال.
أما عن المراحل المقبلة فأتمني ان نصل إلي مرحلة تدريب الصحفيين تحت التمرين ولكن للأسف نقابة التدريب متأخرة علي مستوي المجتمع لكنه فلا زالت صورة "بلية" عن المتدرب أي انها "قلة مقام".

* ألست معي في أن مثل هذا المركز لابد وان يقوم فيه بالتدريب أكثر الصحفيين خبرة "شيوخ الصحفيين" بالمؤسسة؟
** هذا ما يحدث بالفعل ولكني بصفتي المسئول عن المركز أقوم بدمج مجموعة من شباب الصحفيين معهم.. حيث ان هؤلاء المتدربين جميعهم من الطلبة ولا أود ان يكون فارق السن كبير بينهم وبين مدربيهم.. كما ان التدريب اليومي يتطلب شباب يتحركون معهم.

* ما رأيك في اقتحام التكنولوجيا للعمل الصحفي؟
** اعتقد ان ذلك شيء هائل.. فهذا هو المستقبل.

* تم تكريمك في ورشة العمل التي نظمها مركز الجمهورية للتدريب الصحفي والاتحاد الدولي للصحفيين حول الإدارة الفاعلة لنقابات الصحفيين.. وكان من المنتظر من هذه الورشة الاسهام في زيادة توثيق التعاون والصلات بين الصحفيين العرب ودعم العمل النقابي الصحفي في الدول العربية فهل تري ان هذه الورشة قد حققت اغراضها المرجوة؟
** كانت هذه الدورة في اقيمت مرة واحدة وكانت تتعلق بنقابات الصحفيين في الدول الأخري بحيث تؤكد علي اهمية وجود نقابة للصحفيين في الدول التي لا توجد بها نقابات وكان الفضل في دعوة الاتحاد الدولي للصحفيين للزميل عبد المنعم فوزي.

* هل تذكر يوم ان اعتذر الاستاذ "عبد العال الباقوري" عن الاستمرار في السهر بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل واستأذن منك واعتذر عن كتابة افتتاحية الجمهورية؟
** نعم.. و هذا حقه فأنا نفسي عندما لا استطيع تقبل شيء اعتذر عن كتابة الافتتاحية.

* في مقالك "ثلاث قلوب وساحر" الذي تم نشره في 14/4/1990 قلت: "ماذا جري لقلوب الجمهورية" فماذا جري ودعاك إلي كتابة هذا المقال؟
** دعاني إلي ذلك الإشارة إلي المشاكل  والصراعات التي كانت تحتل الجمهورية وقتها وكانت تسبب لنا مشاكل صحية بالقلب.. وكنت اشير هنا إلي أنا وأسامة أبو طالب والساحر الدكتور إسماعيل سلام.
* فيما كتبته من خواطر تحت عنوان "القواقع" التي تم نشرها في 3/11/1987 إلي ماذا تشير "القواقع"؟
** أذكر اني هذه الخواطر كنت قد كتبتها وأنا علي شاطئ الغردقة التي سافرت إليها في اثناء فترات صراع الجمهورية ومن وحي المشكلات وقتها.. وكنت اقصد "بالقواقع" شخصيات معينة تعرف نفسها فكل قوقعة كانت ترمز لواحد معين.

* في مقالك "البداية لا تكفي" التي نشرت في 3/1/1987 قلت:  غرامنا بالبدايات ظاهرة تحتاج إلي تفسير.. نبدأ الانضباط ونزهده. نبدأ التبرع لسداد ديون مصر ونوقفه. نبدأ الثورة الإدارية وننساها. وكثيرة تلك الأفكار والمشروعات التي نبدؤها بحماس شديد ثم نتركها للنسيان دون علم لماذا تركناها وكأنما هناك قوي خفية لا تريد لهذا البلد صلاحاً أو تقدماً.
* لماذا هذا المقال؟
** كنت أشير إلي بعض مساؤتنا.. وأتصور ان بعض كتاباتي كانت تنبؤ لأحداث أو سلوكيات رأيتها تحدث فعلاً بعد ذلك. ومنها مقال كنت كتبته عن الاتحاد السوفيتي.. فقد كانت كل الجرائد تكتب "الديمقراطية تنتصر في روسيا" وتهلل لذلك أما أنا فكتبت "زادت الغابة واصبح بها اسدين الاتحاد السوفيتي وأمريكا.. وهذه نكسة لمن في الغابة" وتنبأت ان أمريكا ستسود وحدها وسترد الجميل لنصيرها الأول "إسرائيل" وقد حدث.

* في مقالك "الذين يزرعون اليأس" الذي تم نشره في 19/7/1986 كان رأيك في "حسني مبارك" ان الله وهبه لمصر ليقود مسيرة الشرفاء لإقامة مجتمع "الطهارة" وليعزز ثقة الإنسان  المصري في أن القيم هي التي تسود وان المبادئ هي التي تعلو وان المثل العليا هي الباقية.
ألا زلت عند هذا الرأي.. وإذا كان قد تغير فما هي السلبيات التي دعتك إلي هذا التغير؟
** أتصور ان اسوأ ما حدث هو إعادة تقسيم المجتمع إلي طبقتين وبالتالي ثم اهدار مبادئ واهداف ونتائج ثورة يوليو.

* ما هي اخطاءك المهنية التي تتذكرها؟
** أذكر في أحد المرات ":ان هناك جلسة لمجلس الشعب وكان مثاراً وقتها فضيحة "لوس آرتين" وهي سيدة قيل ان لها علاقة بـ "مصطفي الفقي" واسماء أخري كثيرة وتناولت هذه الجلسة تلك الفضيحة.. وقال النواب الحاضرين للجلسة لرئيس المجلس "الدكتور فتحي سرور" "بكره الجرايد تطلع المفروض ميكونش فيها كلمة من الكلام ده" وايامها كانت الدكتور عاطف صدقي قال كلمة شهيرة جداً "ما هو مرتضي كان بيبوس واحدة تحت السلم" "واحد بيبوس واحدة.. حنا مالنا يا حكومة" وقتها الدكتور سرور قال:"كل كلمة في الجلسة لازم تنتشر" سمعت ان هذه الجملة فقررت النشر.. وكانت هذه الجلسة قد احتوت علي الكثير مما يمس "مصطفي الفقي" الذي اعرفه واحترمه واقدره جداً. وكان الخيار امامي ما بين ان احذف كل ما جاء في الجلسة أو انشرها كلها ورغم انني اعترف ان تقديري له كان يفرض علي عدم نشر شيء يمسه خاصة وانه لم يكن موجوداً ليرد إلا انني اتخذت قرار بنشر كل شيء وهذه هي المهنية.. فالانتقاء خطأ.. أما النشر الكامل أو الحذف الكامل فهذا هو ضمير الصحفي.
وخرجت الجرائد كلها ولم تنتشر شيئاً عنم الجلسة إلا الجمهورية مما جعلني اعتبره سبق صحفي كبير ولكنها كانت ضربة عنيفه لعلاقتي نفسياً "بمصطفي الفقي" ايضاً كان "الفقي" صديقاً لمحفوظ الأنصاري لكنه ولم يوجه لي أي شيء رغم غضبه الشديد الذي كنت علي يقين منه.
هذا الموقف قد يعتبره البعض "خطأ ولكني لازلت اعتقد انني لو لم انشر وكانت الجرائد الأخري قد نشرت لكنت سألتهم بالتقصير لذا اتصور ان "محفوظ الأنصاري" قد تفهم ذلك"
كما انني بعدها عندما قابلت "الفقي" صدفة واعتذرت له قال لي انه يتفهم ذلك واصبحت علاقتنا ودية بعدها.

مممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممممم



3- رائدة الصحافة العلمية بالوطن العربي
د:عواطف عبد الجليل .. عاشقة الصحافة
ألتقتها: سلوى محيى الدين
الأثنين 24 يناير 2011 -- 4:50 م
ستون عاما في بلاط صاحبة الجلالة.. وهبها الله حب العلم والمعرفة والقدرة علي المثابرة والتحدي لم تكن تدرك ذلك وهي مازالت طفلة صغيرة في الثالثة من عمرها. ورأت أخيها الأكبر يذهب إلي المدرسة وهي لا..وتسألت... لماذا..؟!
 استخدمت وسيلة الأطفال الشهيرة للتعبير عن الغضب "الصراخ والبكاء". وعبثا حاول الوالد أقناعها بأنها مازالت صغيرة.
في  النهاية وبعد  محاولات مضنية نجح والدها الذي كان يعمل بالتدريس. في ادخالها مدرسة القلب المقدس. حيث كان بها ملحق يسمي " قلب العذراء" يقبل الأطفال دون التقيد بالسن.
وبالفعل  أظهرت الطفلة  نبوغا جعل الأم الراهبة تقفز بها خطوات أسرع من رفاقها في نفس سنها. وتجاوزت بذلك عدة سنوات في تعليمها الابتدائي. اضافة إلي حصولها علي المركز التاسع علي مستوي الدولة في الشهادة الابتدائية.

بحثت  عن  الدكتورة  عواطف التي أثرت الصحافة. ودشنت  الطريق للصحافة العلمية في الوطن العربي. وثابرت حتي أصبحت للصحافة العلمية مكانتها. أين هي الآن..! وماذا تفعل.? أختفي عمودها اليومي من جريدة الجمهورية منذ عدةسنوات. ولا أحد يعرف شيئا عنها.

أكتشفت أنها تقيم بالمستشفي منذ عام 1998 أي ما يقرب من اثني عشر عاما "أسيرة الفراش".. أو علي حد تعبيرها "مربوطة في الفراش" نتيجة لعدد من المشاكل الصحية التي لعب القدر دورا كبيرا فيها.

ورغم تلك الحالة وعندما ألتقيتها أول مرة. في الحقيقة كان هدفي الذي حددته هو التعرف عليها أكثر وترتيب ميعاد معها إذا كانت حالتها الصحية تسمح بذلك لعمل حوار مطول عنها. تحكي لنا مشوارها الصحفي ومشوار حياتها. حددت نصف ساعة للقاء والنتيجة إنني تركتها بعد ساعتين ونصف. لم أكن أريد المغادرة. وفي نفس الوقت كنت أخاف أن أثقل عليها وأجهدها صحيا.. سعدت بلقائي وأنا أيضا..
يا الله هذه السيدة التي حباها الله بقوة روحية هائلة.. وطاقة حب آسرة.. حب  للحياة والناس. احتفت
بي. وكأنها  في  بيتها.
ولم لا؟! وقد أصبح المستشفي بيتها منذ 12 عاما. قدمت لي الشيكولاتة وسألت عن الأحوال ..سألتها عن عشقها للصحافة ردت قائلة:

في بعض الأحيان يتحول الحب إلي جنون.. أو قل إلي أدمان.. وهذا ما حدث لي بالنسبة للصحافة كان عشقي للصحافة لايعادله شيء.. كل ما توصلت إليه بفضل الله.. وكل ماوفقني الله فيه في الحياة لم يعوض ذلك الشوق الرهيب للعمل الصحفي, إن رائحة المطبعة مازالت تملأ صدري.. وأزير ماكينة الطباعة وهي تدور.. لتخرج من جوفها الأعداد الجديدة مازال يطن في أذني.. والكلمات التي كتبتها فوق الورق الدشت.. وتحولت إلي سطور مطبوعة أريد أن أقول للدنيا كلها.. أن تلك السطور من بنات أفكاري.. مازالت فخر لي.
 ما هو السحر الذي يكمن في تلك المهنة, مهنة الصحافة.. ولكن كيف يمكن أن نعمل بها.. و نحتفظ بكرامتنا.. وطبيعتنا التي خلقنا الله عليها؟

 إن الذي لا شك فيه أن الصحافة بالذات تحتاج إلي صفات خاصة.. أولها الجرأة, وثانيها عدم الاهتمام بكلام المغرضين.. ثم يأتي بعد ذلك الأخلاص في العمل والعلم والثقافة الواسعة, وقبل ذلك كله توفيق الله سبحانه وتعالي.


الصحافة والمرأة

سألتها عن معانة المرأة فى الصحافة,وهل هناك أختلاف بين الماضى والحاضر؟ أجابتنى قائلة:

وضع المرأة في الصحافة اليوم يختلف تماماً عن وضعها بالأمس.. كثير من الصحفيين كانت نظرتهم إليها مجرد أنثي.. العمل بالنسبة لها آخر شيء تفكر فيه.. والأساس لابد أن يكون الرجل.. وكثيرون معجبون بالصحفيات كما لو كن آرتيست من الدرجة الثالثة وعندما يعجبون بثقافتها وعلمها.. لابد وأن يحولوه إلي عامل إغراء أنثوي. لأنهم يدافعون عن تخلفهم العلمي والثقافي وحرمانهم من المؤهل.. إنهم يرون في مؤهل الصحفية تكملة للديكور.. غرور ما بعده غرور.. وافتراء علي الصحفية بدرجة ظالمة.. وكم من حواء تعذبت ودفعت الثمن من دموعها وأعصابها لمجرد أن تواجه عبث البعض من الرجال.. حتي البعض من الرجال.. أصحاب المناصب الكبيرة.. الذين وقفوا في طريق حواء الصحفية فقط لأنها رفضت هؤلاء الصغار.
وأعتقد أنه مازالت هناك بعض رواسب الماضي تطفو الآن فوق السطح.. بين الحين والحين.. مازالت بعض الشابات الصحفيات يعملن ألف حساب للرجال وكثيرات منهن يحاولن ترويض الرجال.. وكثيرات يتحايلن لخداعهن وقلة من الصحفيات تعتبر كل منهن فدائية في عالم الصحافة.. قاومت كثيراً وتعذبت كثيراً.. وتعرضت للظلم كثيراً.. ولكنها في النهاية تسجد لله حمداً وشكراً.. لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.. ولأن الزملاء يذكرونها بالخير.. والخير دائماً..؟


وأسألها كيف بدأت علاقتك بالصحافة ومتي؟

في أواخر شهر يوليو 1949 وبعد ظهور نتيجة امتحان السنة الثانية بكلية العلوم. كان شقيقي الأكبر المرحوم الدكتور حامد ربيع "أستاذ العلوم السياسية الشهير" قد سافر منذ عدة أعوام إلي ايطاليا وفرنسا للحصول علي درجة الدكتوراة وهو الذي كان بمثابة أستاذ لي في كل صنوف المعرفة الأدبية والتاريخية والسياسية والاجتماعية.. وفجأة وجدتني ضائعة ,أري شبح  فراغ  كبير.

 تذكرت كتابات الاستاذين الكبيرين "علي أمين" و"مصطفي أمين" عن الطلبة والطالبات في أمريكا. وأنهم يعملون في العطلة الصيفية.. ويساهمون في نفقات تعليمهم.. فقررت أن أبعث رسالة إلي عملاق الصحافة المرحوم علي أمين.. لأذكره بدعوة الطلبة للعمل.. وأخبره بالسبب ,ولم أتردد في أن أعرض عليه عناوين المقالات التي كتبتها ونشرتها في المجلات الجامعية

وتستكمل الدكتورة عواطف قائلة: "جاء الرد بعد ثلاث أيام وقد حدد المقابلة يوم الأحد 3 أغسطس 1949".
تسارعت دقات قلبي الذي كان يرقص من الفرحة والخوف في آن واحد.. وأطلعت أمي علي الرسالة.. وسألتها هل أخبر أبي؟
فنصحتني ألا أفعل.. لأن والدي لن يوافق أبدا علي عملي وأنا مازالت طالبة.. وعدتني بأن تدبر لي حكاية مغادرة البيت في الصباح.. وربنا يدبرها من عنده.


في ذلك اللقاء تلقت عواطف عبدالجليل الدرس الأول في الصحافة من أستاذها الأول الصحفي الكبير المرحوم "علي أمين" وكان ملخص الدرس  بأن الصحافة جهد وعرق وصبر وجلد.. ولكنها تضيف علي كلام علي أمين: "بعد التجربة وجدت أنها تحتاج "للصبر.. والعرق.. والدموع".. الدموع التي رفض علي أمين أن يذكرها.. ربما لأنة لا يعترف بها.. وربما لأنه يعتبرها ملكا خاصا للصحفي.. وربما كان   حرصا منة  أن يخفي عنها الوجه الشرس للصراع الصحفي.


انطلقت في مهنة البحث عن المتاعب مع أستاذ معلم.. صحفي عبقري.. إنسان حنون طيب.. لا تعتقد أن هناك مثيلا له.. غير شقيقة المرحوم مصطفي أمين. لقد دخلت ذلك الصرح الهائل أخبار اليوم بغير وساطة.. بل بغير معرفة وكأنها سعت إلي جامعة خاصة.. أستاذ خصوصي قلما يجود الزمان بمثله.. إنه الصحفي العبقري الإنسان العظيم علي أمين, الذي تبناها وحرص علي أن تعمل تحت اشرافه الشخصي.

 وظنت الطالبة عواطف أن تلك الفرصة الذهبية التي منحها الله إياها.. مسألة عادية في عالم الصحافة وأن كل الصحفيين مثل علي أمين.

واجتازت الصحفية المبتدئة الاختبارات الصعبة التي أعدها لها استاذها علي أمين اختبارات الصبر والجلد والعرق والدموع ونالت اعجاب استاذها. كما نالت اعجاب زملائها أيضا.

 استغرق حواري مع الدكتور عواطف عبدالجليل عدة جلسات نظرا لظروفها الصحية حصلت منها اثناء الزيارة الأولي علي مذكرات "صحفية عاشقة" تلك المذكرات التي كتبتها اثناء الفترة الطويلة اللاحقة لاصابتها واقامتها بالمستشفي.

أنبهرت أثناء قراءتي تلك المذكرات ودقة أحداثها. وكأنها تعيش الأحداث التي نكتبها لحظة بلحظة. احترت كيف أقدم هذه الشخصية. وأخترت أن أعرض مقتطفات من هذه المذكرات لتتعرفوا معي علي هذه الشخصية الثرية وتعيشوا معها بعضا من الأحداث المهمة التي مرت بها ولكن في البداية أقدم لكم احدي المقالات التي نشرت بجريدة الجمهورية والتي حكت فيها لماذا بدأت كتابة مذكرات صحفية عاشقة هذه المقالة كتبت في ديسمبر .1998

العلم والحياة
لا أدري أي هاتف الح علي بشدة. أن أحاول بكل الجدية والأصرار.. كتابة مذكراتي خلال رحلة عملي في الصحافة.. ربما كان السبب أن العام القادم 1999 يصبح طول تلك الرحلة بمشيئة الله خمسين عاما.. نصف قرن بدأت في أغسطس ..1949 وأنا مازلت طالبة بالسنة الثانية بكلية العلوم بجامعة القاهرة.
لقد فكرت مرات كثيرة في كتابة تلك المذكرات.. وكان زوجي رحمة الله عليه.. كلما عرف بعض أحداث تلك الرحلة المثيرة.. وكلما عاش معي بعض أيامها الحلوة.. أو أيامها المرة.. ألح علي بدوره في كتابتها.
مع ذلك كنت أتراجع بعض الشيء.. ليس تخليا عن الفكرة.. ولكن محاولة لتأجيل عملية التنفيذ.. لأنني آليت علي نفسي ألا أحيد أبدا عن القسم الذي عاهدت عليه ربي يوم بدأت العمل في الصحافة.. خشيت أن أجرح البعض من الزملاء.. أو أعري البعض الآخر من الرؤساء.. أو أعجز عن منح الكثيرين ممن عرفت حقهم من الشكر والأمتنان.لم أطلع أحدا علي ما عقدت العزم عليه.. إلاصديقة العمر.. ورفيقة تلك الرحلة.. الأخت الصديقة الشاعرة زينب عزب.. وقد سعدت كثيرا.. وهي التي طالما لامتني لترددي في الكتابة.
وبدون مقدمات.. وجدتني وأنا مربوطة في الفراش.. أجدني أسيرة تلك الذكريات.. تتراقص من حولي وتحاصرني.. وكأنها قافلة من الفراش متعدد الألوان والأنواع والأشكال.. يتراقص محلقا حول مشعلة من نور ونار.

سبحانك ياربي.. لماذا تحولت إلي كيان تقوده الأقدار.. تدفع به مرة إلي اليمين وأخري إلي اليسار.. وكأنني متفرجة حاولت فقط أن أفهم ما يجري من حولي.. أحاول أن أفهم وأعي ما يدور في رأسي.. أحاول أن أستوعب ما تعتمل به نفسي.. أحاول أن أسمو بروحي.. من أوحال الأرض إلي عنان السماء.
لقد عشت حياتي العاملة.. غارقة في بحور العلم.. ولعلني اعترف لأول مرة.. بأن رحلتي مع العلم كان اساسها التعمق في فهم ملكوت الله والتبحر في محاولة فهم ما يجري في هذا الكون.. بداية من الحياة.. التي أودعها الله كيان كل شيء حي.. الحياة القابعة في كل ذرة من كيانها.. نمضي في الحياة.. نحمل معجزاتها ولا نكاد نشعر بها إلايوم يولد ضيف جديد علي هذا الكوكب.. أو راحل قضي مدة خدمته.. وآن له أن يعود إلي بطن أمه الأًرض.. مع ذلك فكثير ما جذبني تيار العلم العاتي.. وأبحر في مجاهل وغابات.. فوق روابي.. وداخل أكمات.. في قلب أعاصير وفي أعماق محيطات.. وفي كل خطوته.. وفي كل نبرة.. وفي كل همسة.. تسمع ملائكة الرحمن.. تردد بغير انقطاع.. تراتيل الوجود.. هو الله.. هو الله.


وأعود لاهثة الأنفاس.. حائرة الفكر مسلوبة الأرادة لا أجد أرضا ألقي فيها بذرة للنماء ولا صفحة أسجل فيها روعة الخلق ولا مستمعا يشاركني متعة المعرفة وروعة الكشف ولو عن نبتة صغيرة تشق الارض وتبزغ في شجاعة باحثة عن شعاع ضوء من أجل النماء وصناعة الرخاء استبدت بي الرحلة التي استمرت  ما يقرب من نصف قرن وأنا سائرة في نور  الله  أقول يارب امنحني القدرة علي التعبير عما يجول  في عقلي وقلبي  ونفسي يارب أضييء بصيرتي وأسرع بديهتي واحلل عقدة من لساني يفقهو قولي ولكن إرادة الله ومشيئة الرحمن وحكمة  الخالق العظيم حددت لي الطريق, ومضيت أزعم أنني أناضل من أجل رسالة وأكافح من أجل فكرة والحقيقة أنني كنت ومازالت اسير في طريق الحياة وكأنني  معصوبة العينين مغلولة اليدين دعيني آيتها الذكريات ودعيني أعيش ما تبقي من الحياة لا أقسو علي نفسي وألومها أو اصدم الآخرين  وأقول كلمة الحق  التي لا أعرف غيرها.
دعيني  آيتها الذكريات ودعك من هذا الأصرار علي التحليق  من حولي وفوق رأسي في يقظتي وفي نومي ربما في قبري ايضا.
صدقوني انا كنت جاهلة مدعية عندما  رددت طويلا.. أنني اخترت وقررت ورأيت  وصممت أنها ارادة الرحمن الرحيم صاحب الأمر في اختيار الطريق كل طريق.
د. عواطف عبدالجليل




بين دراسة العلوم والصحافة

نعود الي مذكرات  د. عواطف لنعيش معها حيرتها  وماذا تختار؟ وكيف  حسم عشقها للعمل الصحفي الاختيار؟
ويشاء القدر ان اكون تلميذة وتتعلم في جهتين كل منهما تبدو متعارضة مع الأخري جبهة الفن الصحفي وهو فن ذو طبيعة خاصة انه فن يضم تحت عباءته كل الوان المعرفة.. فن الثقافة في اوسع ميادينها ثم دراسة العلوم وبالذات الكيمياء بأنواعها العضوية والتحليلية وغير العضوية والحيوية والذرية والحيوان وهو الآخر له ألوان وأشكال ,الجنيني والتصنيفي والتشريحي والفسيولوجي.
وتتساءل حائرة:

الي أي المجالين  أنضم.؛ انا أحب الاثنين معا.. كرهت العلوم في البداية ولكنني احببتها بشراهة أما الصحافة فقد تسربت الي كياني فعشقتها., ومع ذلك فأنا مازلت طالبة في الجبهتين.
وأتساءل معها لماذا كرهت العلوم في البداية...؟!
وماالذي جعلها تحبها بشراهة بعد ذلك؟ فقد علمنا لماذا اختارت الصحافة الأمر الذي جعل وصفها عن الصحافة بانها تسربت الي كيانها فعشقتها أمر منطقي
استكمل القراءة فتجيبني مذكراتها عن السؤال؟:

لقد كنت ناقمة علي كلية العلوم في البداية.. عندما اصبت بخيبة أمل شديدة.. يوم دخلت معمل النبات في أول يوم ألتحق فيه بالجامعة.. ومررت بإدارة الجامعة وتوقفت أتطلع الي ساعة الجامعة التي كانت تلازمني دقاتها وملأت عيني من مباني الآداب علي اليمين والحقوق علي الشمال قبل أن اصل الي معمل النبات في مبني يقع علي الشمال ينتهي في ردهته الواسعة بالدور الثاني.. وأبتدرني المرحوم الاستاذ الدكتور عبدالحليم منتصر رئيس قسم النبات.. وسألني رايحة فين؟ قلت المعمل  قال معمل إيه؟ لم انطق لانني فعلا لا أعرف ومضي الي معمل فىمواجهة الردهة الفسيحة.. وسألني عن اسمي.. ثم نادي علي المحضر الذي اسرع أليه وطلب منه ان يبحث عن اسمي في الكشف فعثر عليه ,نظر إلي الدكتور  منتصر قائلا أنت بقسم بيولوجي وهذا هو معمل النبات, تفضلي وحاولي الحضور مبكرا في موعد الدراسة.
عندما قادني المحضر الي مكاني أمام المنضدة ووجدت الميكروسكوب فرحت به ولكني وجدت بجوار الميكروسكوب طبقين زجاجين صغيرين.. في احدهما بضع حبات من الفول النابت النيئ وفي الثاني بضع حبات من الذرة المستنبتة.. سألت المعيدة التي وجدتها فوق رأسي أبله فاطمة عامر.. ماذا أعمل؟ قالت: أشتغلي نظرت إلي زميلتي وجدتها تنظر في عدسة الميكرسكوب فلم أجد إلا المحضر سألته أن يدلني علي ما أفعله, فجاء الرجل الطيب ومعه مرشط وبين لي كيف احصل علي شريحة رقيقة من حبة الفول وأخري من حبة الذرة وأضعها في الشريحة الزجاجية التي أمامي وانظر اليها تحت الميكروسكوب ثم اقوم برسمها.. للتعرف علي  الحبتين ثم قال بعض الكلمات بالانجليزية أو اللاتينية لم أفهم منها شيئاً يومها شعرت بأحزان الدنيا تنسكب  في قلبي وخيبة الامل تملأ رأسي هل هذه هي الجامعة فول نابت وذرة مبللة هل هذه هي العلوم؟
لقد أنقذني صوت طلبة الجامعة القادم من الجامعة:
نموت نموت وتحيا مصر.. تركت الفول والذرة والمعمل كله وذهبت الي حيث الجمع المهيب  امام كلية الحقوق والزعيم الأنيق صاحب الجاكيت الازرق البليزر يتربع فوق الاكتاف يهتف ومن خلفه تردد الحناجر كلها نفس الهتاف ,,هذه هي الجامعة فول إيه وذرة اٍيه بلا جيولوجيا بلا  بيولوجيا..  بلا  هم  وغم.
هذه البداية الرهيبة ظلت تلازمني حتي نهاية العام.. ولم أدخل الامتحان وعدت السنة الأولي لادرك عن يقين ان قدري في هذه الكلية وبدأت آخذ الأمور بجدية.
فوجدتني أحب العلوم شيئاً فشيئا وبدأت الاهتمام بقراءة المؤلفات العلمية الشهيرة في مكتبة الجامعة وأصبح الذهاب إلي مكتبة الجامعة وتمضية ساعات في القراءة متعة فتحت أمامي ابواب المعرفة العلمية البعيدة عن الكتب التقليدية التي كان الاساتذة يطالبوننا بشرائها في بداية العام شيئا فشيئا احببت العلم بلا حدود والأن هأنذا أقف بين العلم وبين الصحافة بين مجالين مختلفين, ولكن لكل منهما جاذبية ولكل منهما مزاياه ولكل منهما مكانه رفيعة في القلب والنفس.

ورغم مامنحني علي بك من رعاية وعناية وما قدم لي من معونة وما علمني من فن الصحافة بل, وفن الحياة ومن اساليب البحث عن المعرفة, فقد سبق لي ان حظيت بالكثير  من رعاية واهتمام اساتذتي خلال العامين الاخيرين, وخاصة المرحوم الاستاذ الدكتور عبدالحليم منتصر.. ماذا أفعل؟

سوف أمضي في المجالين معا وقلت لنفسي أليست الصحافة هي الاخري علما..؟ لقد رأيت مجلات علمية رائعة مثل ساينس دايجست SAINCE  DIGEST   لماذا نفرق بينهما؟ ولماذا لا نصالح بينهما سأحاول؟ وليوفقني الله..!

الجورنالجية.. والأسرة

قررت أن تستمر في دراسة العلوم والتدريب في الصحافة بل وخططت ونظمت وقتها لتستمر في المجالين معا ويخطر في ذهني سؤال خاص بأسرتها فتاة في عام 1949. حقا هي من اسرة مختلفة تقدر العلم ,أما الصحافة فكان لها شأن آخر في ذلك الوقت ماذا كان رأي الاسرة وخاصة الأب..؟
أجابتنا قائلة:

في أحد الايام خلال ذلك الصيف علم أبي ذهابي الي دار أخبار اليوم.. عن طريق أمي والتي  قالت لي إن أباك غير مقتنع بذلك الكلام وأنك طالبة فقط وبعد التخرج فيها فرج..؟
ماذا أقول لوالدي..؟ هل يرفض والدي عملي بالصحافة, في نفس  الوقت الذي يتعامل معي كل الصحفيين بأنني تلميذة علي بك ؟هل يحطم آلامي وأحلامي..؟!
جلست أمام أبي وكأني في محاكمة قاسية.. قررت أن أصارحه بكل شيء فهذه عادتي دائما ,قلت لأبي كل شيء,, نعم حكاية الرسالة لعلي بك واللقاء التاريخي والمهام الصعبة التي كلفني بها لاختبار قدرتي علي المثابرة, وقلت له  انني لم اقصد ان اخفي عليه شيئا وفقط أخبره عندما أصل الي شيء مؤكد, وأخبرته أنني مازالت في بداية الطريق ورجوته ألا يحرمني من فرصة القيام بعمل مسل خلال فترة الاجازة وفكرت والدي بما أعانيه من ضيق بسبب غياب شقيقي في الخارج وعدم  السماح لي بزيارة الصديقات.
تظاهر والدي بالاقتناع ولكن بشروط لابد أن أكون في البيت قبل الغروب وأن يكون العمل  مجرد شغل وقت في شيء مفيد وأن يكون العمل مع علي بك أو غيره من كبار المسئولين و......... و.............. و............. وطبعا وافقت علي كل الشروط وقد أحسست بأن كابوسا ضخما انزاح عن صدري فلم أعد خائفة أن يعرف أبي سر خروجي كل صباح وهو الذي يسمح لنا بحرية معقولة ولكن تحت مراقبة دقيقة..
أما حكاية الصحافة فله فيها رأي آخر إنها كما يقول أصدقاؤه مهنة من لا عمل له مهنة الجورنالجية وطبعا طمأنته بأن دراستي في كلية العلوم لا علاقة لها بمهنة الجورنالجية والحمد لله أنني أحب تلك الدراسة ومتفوقة فيها.

كان الحب يتسلل في كيانها كله وهي في غفلة من الزمن استولت الصحافة عليها بالكامل فلم تعد  بالنسبة لها مجرد عمل لشغل الفراغ او الكسب  المادي كما تصورت في البداية, بل أصبحت بالنسبة للشابة الصغيرة شيئا محببا الي القلب والنفس والعقل أصبحت الصحافة بالنسبة لها مصدر فخر ,مبعث حب, وسيلة ثقافة, نافذة للتعرف علي شخصيات مرموقة ,مجتمع جديد تماما ,وأخيرا بابا للرزق ,خاصة بعد ان كافأها استاذها الأول علي أمين. بمبلغ عشرين جنيها بعد ان طالبته بأجرها عن الأعمال التي كلفها بها طوال الشهر فرحت بالمبلغ لدرجة جنونية ولكنها حزنت كثيرا عندما علمت انها الوحيدة التي تم مكافأتها وأنها مخالفة صارخة لدستور الصحافة والذي خصص للمبتدئين قسما أسمه قسم المحررين المبتدئين "صحفيين تحت التمرين".

وتحكي قائلة: جريمتي انني كنت أجهل هذا الدستور جملة وتفصيلا لأن الذي اعرفه عن قناعة أن العمل اي عمل يقوم به الإنسان لابد وأن يتقاضي عنه أجرا وقد كان.

ولكنها علمت بعد ذلك أن زميلها الذي يعمل قبلها بأربعة أشهر و مازال تحت التمرين لم يحصل علي اي شيء, وهي بعد اقل من شهر تحصل علي عشرون جنيها لأول وهلة كان ردها التلقائي ولماذا يقبل العمل بدون أجر؟ انه المسئول  عن ذلك لانه لم يطالب  بحقة ولكنها لم تكن تدرك ايضا ان هذا المبلغ قد تسبب في ألم مضاعف  بالنسبة لزميلها وأظهر عقدة النقص لديه لانها طالبة جامعية وهو ليس كذلك.
وعبر لها عن ذلك قائلا: بس أوعي تفتكري إنك احسن مني في شييء بتوع الجامعة دول لا يساوا شيئا دول ناس مغرورين ولا ينفعوا ببصلة..!

الصحافة العلمية

ونقفز مع د.عواطف عدة خطوات في بداية عملها الصحفي.. وننتقل الي المرحلة المهمة في حياتها الصحفية وهي التخصص في الصحافة العلمية.. كيف تبلورت الفكرة..؟! وكيف عملت عليها..؟!

منذ البداية قررت أن تزاوج بين العلوم والصحافة أول من بحثت عن علماء هذا الزمان. حاورت الدكتورة سميرة موسي عالمة الذرة الشهيرة قبل ان تصبح ذائعة الصيت. وكانت عواطف مازالت طالبة بكلية العلوم.
عن هذه المرحلة تقول:

بعد أن انقطعت عن اخبار اليوم بسبب الدراسة وبسبب مرض والدى الذي استمر أكثر من عام والذى غير مجري حياتي كلها..  ,غير من فلسفتي في الحياة.. وغير من نظرتي للآخرين , ربما أصبحت أكثر انسانية.. ربما أصبحت أكثر نضجا

كانت الصحفية تحت التمرين والطالبة في نفس الوقت قد قررت ان تتفرغ للمذاكرة. لأنها لا تريد ان تحصل علي البكالوريوس بدرجة غير مشرفة.. فهي تحب العلم وترفض ان يظن البعض انها اتجهت الي الصحافة لأنها فشلت في دراسة العلوم.
 أبلغت أستاذها علي بك أمين بذلك. وهي تستأذن في اجازة طويلة لحين الانتهاء من الامتحانات رفض الأستاذ "علي أمين" وقال: "حاولي ان تظلي علي اتصال بأخبار اليوم. ان أخبار اليوم حريصة علي الاحتفاظ بك".. وأضاف: "لو قطعت صلتك بأخبار اليوم سوف تندمين".

لم تنس الشابة الطموحة هذه العبارة "لم يجل بخاطري ما كان يخبئه لي القدر.. الا انني باحساس خفي شعرت بأن شيئا رهيبا قد حدث.. تحولت الي انسانة شبه ضائعة.. لقد فقدت شيئا عزيزا.. أصابني مكروه لا أدريه.. فقدت القدرة علي الاستذكار.. لم أعد أعرف كيف أركز.. أمسك الكتاب.. فأشعر بما يشبه الدوار.. جربت ان لا أعمل شيئا.. وأجلس مع الأخوة والاخوات.. فلاحظوا انني غير طبيعية وأخبروني بذلك.. وبدأت الأسئلة عما ألم بي".

مع مرور الوقت بدأت الأفكار الايجابية في العودة الي عواطف  وكما تقول "ان من نعم الله علي الانسان.. ان العقل البشري يداوي نفسه ذاتيا.. الصدمات والجراح لا تلبث ان تندمل والأحزان لا تلبث ان تتضـاءل وتتواري.. والغيوم لا تلبث ان تختفي.. وتعود الدنيا الي طبيعتها".
تأكدت الفتاة انها لم تحب الصحافة فقط بل عشقتها.. وانها خيارها المستقبلي.. ولكن أي نوع من الصحافة؟! ترد قائلة:
 "الصحافة التي تهتم بالعلم.. الصحافة التي يحتاجها الشعب المصري.. ولم لا؟!
لقد قرأت لكتاب كثيرين من الأجانب.. كما قرأت العديد من الموضوعات الصحفية الأجنبية.. لم يحدث ان صادفني خطأ علمي.. بعكس الملاحظ في صحافتنا.
لقد قرأت لكاتب كبير أحبه واحترمه يقول ان درجة غليان الماء هي ستون مئوية.. معلومة يعرفها تلميذ الابتدائي درجة غليان الماء مائة درجة مئوية.. والعديد من الأخطاء العلمية التي لم يحدث ان صادفتها في أي مطبوعات أجنبية.. الكاتب الوحيد الذي كان يستخدم الكثير من المعلومات العلمية بصورة صحيحة مائة في المائة.. كان توفيق الحكيم.. أما العقاد فكان موسوعة علمية ودائرة معارف.. أما الباقون فلنا ولهم الله".

من وسط الظلمة النفسية التي أحاطت بها.. سطعت تلك الومضة المضيئة علي استحياء.. واستمدت الفكرة الوليدة وجودها من حبها للصحافة وحبها للعلم واقتناعها المطلق بما كانت تسمعه من أساتذتها الكبار وفي مقدمتهم المرحوم العالم الكبير "مصطفي مشرفة باشا": "بأن مأساة حياتنا في مصر التخلف العلمي".. وكان الجميع يضعون مسئولية ذلك علي الاستعمار.
ولكن  عواطف عبدالجليل خالفت ذلك الرأي. خاصة بعد رحيل الاستعمار.. بل وحتي يومنا هذا لأنها تري ان مجتمع المثقفين يخشي العلم ويخافه.. وان تظاهر بغير ذلك.

كان الهدف القريب "الذي أصبح قاب قوسين أو أدني من طالبة العلوم المحبة لدراسة العلم وميادينه "اللا نهائية" وهو الحصول علي درجة البكالوريوس في العلوم الرياضية بتفوق, يمثل قوة تجذبها بكل كيانها وعقلها وجهدها.
وبالفعل حصلت عواطف علي مرتبة الشرف. وكانت الأولي علي قسم الكيمياء والحيوان.
 أوصلتها هذه النتيجة التي فاقت كل التوقعات الي كلية الطب لتكون معيدة في قسم الكيمياء والحيوان. وتحقق بذلك أحد أحلامها القديمة "كلية الطب" تلك الكلية التي تمنت الالتحاق بها كطالبة. ولكنها ما كادت تبدأ العمل كمعيدة. حتي تذكرت عشقها للصحافة. خاصة وانها كانت قد تقدمت لامتحان المسابقة الذي يعقده معهد التحرير والترجمة والصحافة بكلية الآداب "جامعة القاهرة" والذي أصبح بعد ذلك كلية الأعلام, حالفها الحظ فكان النجاح بتفوق أيضا. واختيارها من بين الخمسة الأوائل من الخمسة والعشرين الذين تم الحاقهم بالمعهد.

بين المطرقة والسندان

في نفس الوقت علم أستاذ الكيمياء الحيوية المرحوم الدكتور محمد شفيق الريدي بأن عواطف سبق لها العمل في أخبار اليوم.. وانها تدرس في معهد التحرير والترجمة والصحافة فطالبها بالاستقالة وعندما عرضت الموضوع علي المرحوم الأستاذ الدكتور "عبدالله الكاتب" عميد كلية الطب في ذلك الوقت..
طلب منها اما ترك معهد الصحافة "لأن دراسة الصحافة ليس لها علاقة بدراسة الطب". وان القانون يمنعها من الالتحاق بتلك الدراسة".. واما ترك الجامعة بمحض اختيارها. وطلب منها التفكير واعطاءه قرارا نهائيا بعد اسبوع.

اختارت عاشقة الصحافة "طريق البحث عن المتاعب". وودعت كلية الطب. ولكنها لم تودع دراسة العلوم الطبيعية ممثلة في الكيمياء الحيوية. والتي فتح آفاقها الواسعة أمام عينيها أستاذها الألماني البروفسور "فون هارمز" ,عندما بدأت الدراسات العليا في علم الحيوان التجريبي بكلية العلوم تحت اشرافه.

كما تتذكر أيضا صاحب الفضل الأول عليها في التعلق بدراسة تلك العلوم الحيوية الوثيقة الصلة بالحياة في كل صورها.. والتي تقول عنها "تستمد كل صورها من جوهر أساسي لا يعلمه الا الله".. انه الأستاذ
الدكتور "محمد رشاد الطوبي" العالم العربي الذي شدها الي رياض وحدائق العلم. عندما كان يدرس لها علم الأجنة ليقدم معجزات الحياة في صورة سلسلة مبسطة تتسم بالفن والجمال والعلم والايمان معا.

 صبر وأصرار

بدأت عاشقة الصحافة خطواتها الأولي في مهنة البحث عن المتاعب بسهولة ويسر. بخطاب إلي علي أمين. ولكن كانت عودتها مرة أخري لمعشوقتها ليست بالأمر السهل. فالصحافة مهنة لا تبحث عن أحد. ولكن علي العاشق مهمة البحث عنها, وبذل الكثير من الجهد والصبر والعرق والدموع. لتحقيق ذلك وكان علي الشابة الطموحة شق الطريق من الصفر إلي عالم صاحبة الجلالة.
 وعن هذه المرحلة تقول د.عواطف في مذكراتها: "من نعم الله علي الإنسان.. أن يمن عليه بتجارب جديدة في حياته.. هذه التجارب هي ثروة للعقل.. وكل تجربة تعتبر درساً حيوياً عملياً.. يضاف إلي رصيده المعرفي.. لذلك فمن فضل الله علي الإنسان.. أن يرحب بكل تجربة.. وبكل درس جديد. وبكل عمل شريف.. حتي ولو كان العمل في مجلة "البعكوكة" أشهر مجلة كوميدية في تاريخ الصحافة العربية. بل والأوسع انتشاراً أيضا.
 قدمت الدكتورة عواطف في هذه المجلة أبواباً للمرأة والطفل وطلبة المدارس والجامعات. إلي أن حصلت علي فرصة للعمل بجريدة القاهرة. وعن هذه التجربة تقول:
"قادتني الأقدار إلي جريدة القاهرة.. صحيفة كانت في بطن الغيب.. ولم أعرف عنها شيئاً. وفي ذلك الركن الهاديء من القسم الثقافي.. بدأت مرحلة جديدة من حياتي.. مرحلة العمل كصحفية حرة.. ذات إرادة وذات سيادة علي ما أعمل.." طبعاً بأمر الله ومشيئته..؟!!

في جريدة القاهرة بدأت مرحلة جديدة تماما من الحياة.. كنت مازلت طالبة في السنة الثانية بمعهد التحرير والترجمة والصحافة وفي نفس الوقت كنت مدرسة علوم بمدرسة الأميرة فوقية الثانوية للبنات.. مع ذلك كان العمل الصحفي هو الأهم.. فهو الأصل الذي أعد نفسي له.. لذلك حرصت علي أن أعطي أقصي ما أستطيع.. ومن فضل الله أن المرحوم الأستاذ محمد صبيح الكاتب الكبير والمؤلف وصاحب كتاب الشهر الذي قدم سلسلة محمد رسول الله وأتاتورك ومحمد عبده.. إلخ, من فضل الله أنه كان أستاذاً لي في المعهد لبضع محاضرات, ولكن في الجريدة كان أستاذاً وأباً لساعات طويلة. رغم أن رئيسي المباشر كان سعد لبيب.. إذاعي كبير ذكي مثقف نشط جداً, ينتهي من عمله في الإذاعة, ليأتي إلي الجريدة في حوالي العاشرة أو الحادية عشرة فيجدني غارقة وسط كومة رائعة من المجلات التي حرص أستاذي محمد صبيح أن يزودني بها ويطالبني بزيارة مكتبة هاشيت لاختيار ما يروقني من مجلات إنجليزية وفرنسية..
 لم أكن قد بدأت التوقيع باسمي.. كل ما أنشره مجهول التوقيع.
حتي كان يوم اخترت ترجمة مذكرات راهبة كاثوليكية تمردت علي الفاتيكان وخرجت علي الكنيسة وأصرت علي نبذ الرهبانية مؤكدة أنها لا تقوي علي احتمال ما تفرضه الحياة من قسوة كراهبة , وأن الطبيعة البشرية ترفض تلك الحياة التي تفرض علي المرأة الحرمان العاطفي طيلة حياتها.
كانت المذكرات منشورة في جريدة المحافظين البريطانية "الديلي اكسبرس" وكانت بركانا من المشاعر, لدرجة أنني كنت أبكي وأنا أقوم بالترجمة.. وفي حلقة ساخنة جداً وضعت لها عنواناً هو: يا عواطفي دعيني, وأصريت أن أوقعها بالاسم الأول: عواطف.
كانت تلك الترجمة سبباً في شهرة غريبة.. فقد ربط الكثيرون بين العنوان والاسم.. كيف ؟ لا أدري؛
 المهم أنني بدأت بعد ذلك أوقع علي قطعة من المقطوعات الكثيرة التي أقدمها لشغل الصفحة الثقافية كلها.

 الصحافة العلمية

وعن بداية تحقيق حلمها,بالصحافة العلمية,تحكى لنا دكتورة عواطف قائلة:
كان الزمن مازال رفيقاً بنا بمنحنا الفرصة.. لنحلم. ونروي براعم أحلامنا لتتحول إلي ورود..
كلما لاح في حياتنا بصيص من نور.. صورناه نجماً منيراً مازال في الطريق وهذا ما فعلته بي الأيام,
عندما وجدت أبواب العمل الصحفي تتفتح لي علي مصاريعها في جريدة القاهرة المسائية. وقد ولدت معها ضجة إعلامية كبيرة. واكتسبت احتراماً سياسياً عظيماً. وأهم شيء بالنسبة لي كان مولد صفحة علمية أسبوعية كل ثلاثاء صفحة "نحو عالم جديد" ثم تسلل المادة العلمية إلي صفحتي المرأة والجامعات, وكل ركن في الجريدة.

الحقيقة أن المرحوم حافظ محمود شيخ الصحفيين ورئيس التحرير كان محباً للعلم.. مشجعاً لما هو علمي.. وأصبحت الجريدة كلها مصدر احترام المسئولين وتشجيعهم.. وبدأت شخصيات كبيرة تزور رئيس التحرير وتطلب التعرف علي.

واصلت عواطف عبدالجليل العمل في جريدة القاهرة من أكتوبر 1953 حتي 1959 وهو تاريخ توقف الجريدة لأسباب سياسية بالدرجة الأولي, بعد وفاة سعد داغر الذي صدرت الجريدة باسمه. كانت الصحفية الشابة تغطي حدثاً عالمياً في أسوان وهو إعادة دفن "أغاخان" في الضريح الجديد الذي أقيم فوق جزيرة "السلام" علي مقربة من جزيرة "النباتات". حيث جاءت جموع الإسماعيليين من جميع أنحاء العالم ليشاركوا زوجته "البيجوم" وحفيديه "صدر الدين خان" و"كريم خان" فتح وصيته أمام ممثلي الطائفة الإسماعيلية..
وكانت الصحفية الشابة ممثل وكالة أنباء الشرق الأوسط وجريدة القاهرة. وعند اتصالها بالجريدة تليفونيا يوم 21 فبراير. علمت أن الجريدة سوف تتوقف عن الصدور صباح اليوم التالي "يوم الثلاثاء" الذي تظهر فيه صفحة "نحو عالم جديد".

انفجرت الشابة في البكاء وكأنها فقدت شخصاً عزيزاً وقريباً إلي قلبها. وأخذ زملاؤها في مواساتها والتخفيف عنها مفسرين بكاءها بأنه علي فقدانها العمل في الصحيفة. لكنها في الحقيقة كانت تبكي "صفحة العلم" والتي تعلمت من خلالها كيف يمكن تبسيط العلوم وتعلمت من القراء ما يعجبهم وما يجذبهم للقراءة.

وتحقق الحلم

بدأت الصحفية الشابة مرحلة جديدة من العمل. بدأت العمل مع السلطة. حيث التحقت بجريدة المساء إثر انقلاب في الجريدة وعزل رئيس التحرير الأستاذ خالد محيي الدين وعدد كبير من المحررين وتعيين الأستاذ مصطفي المستكاوي وبعد عدة أيام حدث انقلاب مماثل في جريدة الجمهورية وتم تعيين "صلاح سالم" رئيساً لمجلس الإدارة والتحرير والذي طلب مقابلتها علي وجه السرعة وعرض عليها إنشاء أول قسم علمي في الصحافة العربية. علي أن تتولي هي رئاسة القسم. ويكون لها حق تعيين من تشاء في ذلك القسم كان ذلك في صيف .1959

وأخيراً تحقق لعواطف عبدالجليل الأمل الذي عاشت تحلم به منذ بدأت عملها بالصحافة. ولم تعرف إلا بعد شهور عديدة أن صاحب الفكرة كان الرئيس الراحل "جمال عبدالناصر".. منذ ذلك التاريخ تفرغت عواطف عبدالجليل للصحافة العلمية. والإعلام العلمي في الصحافة والإذاعة.. فقد امتدت مساعيها لتجد للعلم مكانا في البرامج الإذاعية, بدأت بربات البيوت, ثم برنامج العلم والحياة الذي بدأ أسبوعياً ثم أصبح برنامجاً يومياً.

المؤهلات العلمية
* بكالوريوس علوم مع مرتبة الشرف جامعة القاهرة .1951
* دبلوم معهد التحرير والترجمة والصحافة بدرجة ماجستير .1954
* دراسات عليا مع البروفسور "فون هارمز" بقسم الحيوان بكلية العلوم.. جامعة القاهرة.
* ماجستير في علم الهرمونات .1953
* دكتوراة في الإعلام مع مرتبة الشرف الأولي من كلية الإعلام جامعة القاهرة .1981

التقدير العلمي
* الميدالية الذهبية للصحافة الوطنية في عيدها المئوي عام 1965. كأول محررة علمية في الصحافة العربية.
* جائزة تقديرية من الاتحاد العالمي لنوادي العلوم للجهود المتميزة في مجال تبسيط العلوم للشباب عام .1978
* الميدالية الفضية بجريدة الأهرام بمناسبة مرور مائة عام علي صدورها. وذلك للجهود الإعلامية في مجال تبسيط العلوم.
* وسام العلوم والفنون والآداب من الطبقة الأولي عام 1981 وعام 1985 للمرة الثانية كرائدة لتبسيط العلوم في مصر والعالم العربي.
* الجائزة التقديرية لوزارة الثقافة في عيد المرأة العالمي عام 1983 من أجل الريادة النسائية في المجال العلمي والإعلامي.
* جائزة الدولة التشجيعية في تبسيط العلوم عام 1985 من أجل النشاط العلمي والصحفي في مجال تبسيط العلوم.
* العضوية الدائمة في لجان التحكيم بوزارة الثقافة لمنح جوائز "سوزان مبارك" لتبسيط العلوم.
* جائزة القدوة الطيبة لعام 1992 التي يمنحها المركز العربي للفنون والمعلومات.

التقدير علي المستوي الدولي
* عضوية مجلس إدارة الاتحاد العالمي للمشتغلين بالعلوم.. ولأول مرة تمنح هذه العضوية لممثل للعالم العربي وإفريقيا ويضم هذا الاتحاد عدداً من العلماء الحاصلين علي جائزة نوبل في العلوم والطب مثل البروفسور "باور" والبروفسور "بارب".. ولأول مرة أيضا يقرر الاتحاد العالمي أن الصحافة علم مثل بقية العلوم البحتة والتطبيقية.
* العضوية الشرفية لمعاهد "ماكس بلانك" بألمانيا.
الكتب والمؤلفات:
* غزو الفضاء "دار التعاون" .1974
* رجال غيروا وجه العالم "مؤسسة فرانكلين" .1958
* كل شيء عن عجائب الكيمياء "عشر طبعات".
* علم وتسلية "مؤسسة فرانكلين" 3 طبعات.
* دنيا العلم العجيبة "مؤسسة فرانكلين" 3 طبعات
* علم أو خرافة "مؤسسة فرانكلين" 3 طبعات
* غزو من المستقبل "الدار القومية للطباعة" 1970
* لقاء عند نهاية العالم "الجمهورية"
* مذكرات مدرسة "دار الشعب" 1979
* الإعلام العلمي الجماهيري "أكاديمية البحث العلمي"
1993
* قافلة العشاق "دار التحرير

http://web.archive.org/web/20120102193832/http://tahrironline.net/Pages/NewsDetails.aspx?NewsID=1207